«أبو الهول» لأوسكار وايلد: حياة الشاعر من خلال التمثال الأشهر

  • 5/29/2014
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي في عام 1894، كان أوسكار وايلد صار في الأربعين من عمره... وكان يشعر برغبة كبيرة في أن يكتب قصيدة جديدة طويلة يحكي فيها، ولو في شكل موارب، بعض هواجسه وأفكاره، وبعض ثنايا حياته «السرية» الخاصة. ولما كان انتهى، في ذلك الحين، لتوه من قراءة قصيدة «الغراب» لإدغار آلن بو للمرة العاشرة، فيما كان في غرفته يتأمل تمثالاً صغيراً لأبي الهول، رأى أن قصيدته العتيدة يمكن أن تكون منطلقة من هنا: مما يماثل الأجواء والتقسيمات التي أوجدها إدغار آلن بو في «الغراب» ولكن عبر استخدام تمثال أبي الهول وما يرمز إليه هذا التمثال، محاوراً له يحكي عبره الحكاية الشعرية التي يتطلع إلى أن يحكيها. وهكذا ولدت قصيدة «أبو الهول» التي صدرت في العام نفسه في كتاب فخم مزينة برسوم حققها تشارلز ريكيتس. ولسنا في حاجة هنا للإشارة إلى كمّ الضجيج الذي أثارته هذه القصيدة سلباً وإيجاباً، إذ نعرف أن ذلك الزمن كان الذي وصل فيه تزمت العصر الفيكتوري إلى ذروته، وأن أوسكار وايلد كان يصر دائماً على استفزاز ذلك العصر ورقابته، إلى درجة أن الرقابة وخصوم الشاعر كانوا يبحثون بدقة خلف كل كلمة وسطر كي يهاجموا الشاعر، فيما كان أنصاره يبحثون، كذلك خلف كل كلمة وسطر، كي يثنوا عليه وعلى قدرته على تحدي المتزمتين. والحقيقة أن أوسكار وايلد، مع قصيدة «أبو الهول» لم يحوج لا هؤلاء ولا أولئك إلى التدقيق في البحث. إذ جعل القصيدة حافلة بكل ما من شأنه أن يغضب قوماً، ويفرح قوماً آخرين، حتى وإن كان جعل لها خاتمة ميتافيزيقية بالغة الروعة يعلن فيها ارتباطه الحاسم بالسيد المسيح، الذي يسميه هنا «المصلوب». ويبدو هذا الإعلان لافتاً، إذا ما تنبهنا منذ بداية القصيدة إلى أن ما من شيء في سياقها الأول كان ينبئ بأن يكون ختامها على هذا النحو. > المهم إذاً هو أن أوسكار وايلد الذي كان، في رغباته الخفية، يريد أن ينتج عملاً يتفوق على قصيدة إدغار آلن بو التي كانت وصفت من جانب النقاد الأنغلوساكسونيين بـ «أروع قصيدة كتبت»، حقق رهانه بحيث أن كثراً من النقاد والدارسين اعتبروا «أبو الهول» متفوقة على «الغراب»، حتى وإن لم تحقق ما حققته هذه الأخيرة من شهرة على مدى الأزمان. منذ البداية يضعنا وايلد في قلب موضوعه، حيث نراه يصور «أبو الهول» على شكل تمثال عتيق آتٍ من أزمان سحيقة، قابعاً في زاوية من غرفة الشاعر ينظر إليه بلامبالاة، تماماً كما يتعامل مع مرور الزمن بأكبر قدر ممكن من اللامبالاة. إنه هنا على حاله رغم الزمن، وسيظل هنا رغم الزمن. هنا حين يخيم الظلام، كما حين ينتشر الضوء: الجلسة نفسها والنظرة نفسها والغرق نفسه في الأفكار والتأملات. وذات لحظة بعد أن يصف لنا هذا الجو بلغة تعبق بالحياد، يدعو الشاعر أبا الهول إلى أن يجلس على ركبتيه كي يتسنى له أن يداعب رأسه ويلمس أسنانه العاجية. وإثر هذه الدعوة يواصل الشاعر حديثه متنقلاً فيه بين أبي الهول والقارئ في تأرجح بين ما هو تأمل وسبر ودعوة ومناجاة. وهكذا تمر علينا، على لسان الشاعر، ألوف السنين التي عاشها أبو الهول، معبراً عنها في سطور لا يخفي الشاعر فيها تأرجحه هو الآخر بين أقصى درجات التبجيل وأقصى درجات الخوف، إزاء هذا المخلوق الذي - كما يقول لنا الشاعر - عاش كل شيء ورأى كل شيء: «هذا المخلوق الذي لم يتوقف طوال تاريخه عن الدنو من شياطين الأساطير والحكايات، من ارتياد المعابد والمقابر الفخمة». هذا المخلوق «الذي شاهد ايزيس راكعة على ركبتيها أمام اوزيريس، كما شاهد فينوس (عشتروت) راكعة تبكي في مشهد حي غامر، أمام جسد حبيبها أدونيس المثخن بالجراح». > وهكذا، عبر هذا الوصف المتصاعد، زمنياً ودرامياً، يصل بنا الشاعر، مع أبي الهول إلى فلسطين العهود القديمة حيث يحدثنا، بعيني أبي الهول، عن صورة السيدة العذراء راكضة متجولة مع طفلها. إن المخلوق المبجل أبي الهول، وكما يؤكد لنا الشاعر، عاش كل هذا ورآه، تماماً كما عرف حكاية المتاهة... وعاشر أشهر وأهم رجال تاريخ العصور الوسطى... كل هذا يصفه لنا الشاعر بإسهاب ودهشة، ثم إذ ينظر إلى المخلوق منتظراً منه جواباً، أو أي نوع آخر من أنواع التجاوب، يكتفي أبو الهول بابتسامته جواباً... إنها ابتسامته الهادئة العميقة الغامضة التي لا تريد أن تفصح عن أي شيء. فالحال إن صمت أبي الهول هو كل شيء وهو الحقيقة. صحيح أن هذا المخلوق الآتي من عمق تاريخ البشرية وتاريخ الألوهية، قد أحب يوماً «إله الفراعنة» آمون ذا الجسد الأبيض المنطلق والشعر ذي اللون الفاتح... آمون الذي كانت مصر كلها تبجله، لكن أبا الهول لا يريد أن يحكي لنا عن ذلك كله أي شيء. أما الشاعر فإنه يتذكر هنا كيف أن أبا الهول بقي، فيما لم يبق من آمون سوى تمثال ضخم محطم مرمي في رمال صحراء مصر. وهنا، لمناسبة تذكّر هذا المشهد، ها هو الشاعر يدعو مخلوقه للعودة إلى مصر، حيث حبه الأول والأخير «رح إلى مصر دون خوف أو وجل» يقول له بعد أن يحدثه، للمناسبة عن سورية وصيدا، ففي مصر «يمكنك أيها المخلوق أن تعثر على أحبائك السابقين، كما يمكنك أن تعثر على أحبة جدد». وإذ يدعو الشاعر أبا الهول إلى القيام بتلك الرحلة، يستشعر بسرعة في خطابه أن الدعوة ليست فقط حباً بأبي الهول، بل كذلك هي إعلان سأم بيّن: فالشاعر سئم التمثال وصمته الأبدي. سئم وجوده الدائم إلى جانبه يحدق به. وسئم نظرته الجامدة التي تحاول أن تقول دائماً إن وراءها عظمة ما بعدها عظمة... > كل هذا لم يعد يرضي شاعرنا في علاقته مع هذا المخلوق... لهذا، لم يعد على هذا الأخير إلا أن يرحل، ربما إلى حيث يمكنه أن يعود، من جديد، عابقاً بالحياة والحركة. عليه أن يرحل لأن الشاعر بعدما تأمله طويلاً، وبعدما حدثه طويلاً وحاول أن يحرك له ذكرياته وعواطفه معتقداً أنه، ذات لحظة سيلين ويبدل ملامحه، يدرك أخيراً أن هذا كله عبث لا طائل من ورائه. وهكذا نراه يصرخ في الفقرة الأخيرة، وقد خالجه فجأة شعور بأن هذا المخلوق الذي يناجيه ليس في نهاية الأمر سوى تمثال جامد. وهكذا نراه يقول له صارخاً: «أيها المخلوق المزيف... يا أبا الهول المزيف... يا أبا الهول المزيف رح إلى حيث كنت في الماضي. اذهب واتركني مع مصلوبي، هذا الذي يجعل حمله لونه شاحباً، وينظر إلى العالم بعينين مهمومتين... ثم يبكي على كل روح تموت... ثم يبكي على كل نفس من دون جدوى». ينظر كثر من النقاد إلى قصيدة «أبو الهول» هذه على اعتبار أنها القصيدة التي اشتغل أوسكار وايلد على صوغها أكثر مما اشتغل على أية قصيدة أخرى له. فهو كان يعرف أنها قصيدة التحدي بالنسبة إليه، وأنها إما أن تطلع من بين يديه قصيدة كاملة تقول كل ما كان يعتريه في ذلك الحين من مشاعر، وإما فإنه لن ينشرها أبداً. وإذا كان وايلد (1854-1900) قد اشتغل على «أبو الهول» انطلاقاً من رغبته في تجاوز «غراب» إدغار آلن بو، فلا شك أيضاً في أنه عمل عليها وفي ذهنه أعمال كبيرة لشعراء وكتّاب آخرين، حيث أن في وسعنا أن نلمح في القصيدة تأثيرات، خفية أو واضحة، آتية من عوالم بودلير الشعرية، كما من أجواء «إغواء القديس أنطوان» لفلوبير إضافة إلى إيقاع مموسق رائع يحمله الأصل الإنكليزي يبدو طالعاً مباشرة من عالم الموسيقى الرومنطيقية. ونعرف أن وايلد، الذي كان شاعراً وروائياً وكاتباً مسرحياً، كان يهتم بالموسيقى اهتماماً جدياً، ناهيك باهتمامه بالتاريخ والسياسة والفن التشكيلي. وليس من المغالاة القول إن في وسعنا أن نلاقي هذا كله في هذه القصيدة، كما في أعمال أخرى لوايلد تفوقها شهرة مثل رواية «صورة دوريان غراي» ومسرحية «مروحة ليدي وندرمير» ونص «سالومي»... وغيرها.

مشاركة :