إعادة تعريف الرقيب على وسائل الإعلام : كرم نعمة

  • 5/27/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إعادة تعريف الرقيب على وسائل الإعلام كرم نعمة لا يوجد أسوأ من تعريف الرقيب على وسائل الإعلام، فهو قارئ ليس حاذقا، هو جاهل يحجب كل ما لا يستوعبه، يفسّر النصوص وطبيعة الصور وفق ما يشاء وبمنطق الأمن على سلامة الوطن! يعامل الآراء بوصفها قنابل موقوتة وليست مجرد مشاركة لإثراء الحوار، النصوص الأدبية بالنسبة إليه شحنات من التحريض لا أكثر حتى وإن كانت تحلم بالحب. الثالوث المحظور المتمثل بالدين والسياسة والجنس يتضاعف لديه حتى يصل إلى هامش النص وتأويله، الرقيب ببساطة كان حارس البوابة في وسائل الإعلام العربية، قبل مقتل حارس البوابة الأكبر من قبل الفضاء المفتوح وشيوع الإنترنت وحرية تبادل المعلومات. الرقيب كان في العالم العربي، ولم يزل، رجل أمن بمواصفات متثاقفة، فدوائر الأمن لا تقبل بمثقف مخلص لأفكاره أن يكون رقيبا، لأنه في أفضل الأحوال سيكون متواطئا مع ما يؤثر عليه من نص مبتكر ومعبّر، وليس حاجبا لما يشك فيه. لا أعني هنا أن بعض “المثقفين” لم يعملوا رقباء على ما يسمح له بأن ينشر في وسائل الإعلام، لكن المخلص للكتابة لن يقبل بمثل هذا الدور. هل بقي مثل هذا الدور للرقيب على وسائل الإعلام، أعني العربية تحديدا؟ فعندما كان يَحظر توزيع مجلة مثلا في البلاد، لم يكن يفكر أنها متاحة للجميع على الإنترنت، وعندما كان يصادر رأيا مكتوبا لم يكن يتوقع أن صاحب ذلك الرأي قادر على إيصاله إلى ملايين المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي. للوهلة الأولى توحي الفكرة بأن مثل هذا الرقيب تلاشى تقريبا بوجود الفضاء المعلوماتي المفتوح، لأن الحارس الأكبر للبوابة قُتل! وما يسمّى بـ”أمن البلدان” صار مفتوحا باختراق العقول بعد أن تحول العالم إلى أصغر من قرية، فشبكة الإنترنت وفق أريك شميدت المدير التنفيذي لشركة غوغل، ربطت العالم لإطلاق سراح العالم. اليوم بدت الحاجة ماسة وعاجلة لمثل هذا الرقيب، فالدول الديمقراطية المؤمنة بحرية تبادل المعلومات، اكتشفت حاجتها إلى الرقيب الأخلاقي والأمني بعد أن تخلّصت شعوبها من الخوف من الرقيب الذاتي منذ عقود. ديد هو مدونة أخلاقية ومهنية ملزمة، لكن مواقع التواصل الاجتماعي عاجزة عن صياغتها لضبط أداء أكثر من ملياري مستخدم، بدا تأثير ما ينشرونه صادما ويمس سلامة الناس وكرامتهم وينشر الكراهية والإرهاب، الحرية المتاحة للمدونين منحتهم فرصة لتعريف أنفسهم بما يكرهون، وفق تعبير الروائي سلمان رشدي. مثل تلك الحاجة الماسة العاجلة تصاعدت أمس بعد أن كشفت صحيفة الغارديان البريطانية عن مدونة النشر في فيسبوك، في وقت أصبح المحتوى ضخما ولم يعد من السهل إخضاعه لمراقبة دقيقة. تعترف مديرة سياسة التدبير في فيسبوك، مونيكا بيكيرت، بأن وجود ملياري مستخدم لفيسبوك يجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق حول ما ينبغي نشره وما يتوجب حظره. وتقول مثل هذا “يتطلب الكثير من التفكير في أسئلة مفصلة وكثيرا ما تكون صعبة وتوفير الإجابة الصحيحة أمر نتعامل معه بجدية بالغة، فمهما جرى الاجتهاد في ضبط المحتوى، ستظل هناك مساحة رمادية يصعب الحسم فيها إزاء عدد من النقاط، إذ من الصعب مثلا إيجاد حدود التماس بين السخرية والتهكّم المسيء”. تعطي بيكيرت، التي قضت أكثر من عقد من الزمان تعمل مدعيا جنائيا في الولايات المتحدة، مثالا مقنعا يمس أكثر وسائل الإعلام في تغطيتها الخبرية وقصصها التحليلية فتقول في السياق الثقافي قد يكون انتقاد النظام السياسي الملكي مقبولا في المملكة المتحدة، لكن في بعض بلدان العالم سوف تحصل على حكم بالسجن، إن لم يكن الإعدام كما كان ولم يزل! لهذا لا ترى مديرة سياسة التدبير في فيسبوك من السهل الامتثال لقانون واضح. ومع أن إدارة فيسبوك لا تسمح للمستخدمين بالمشاركة في تفاصيل السياسة التحريرية، لأنها لا تريد أن تشجع الناس على إيجاد الحلول، حسب بيكيرت، لكنها تنشر المعايير المجتمعية التي تحدد ما هو غير مسموح به ولماذا. وتلك المعايير عرضة للتغيير مع مرور الوقت ونمو المجتمعات وحساسياتها تجاه القضايا المعروضة. المناطق الرمادية التي اتسعت مع توسّع المشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي صارت تمس قيم المجتمعات والأمن القومي للبلدان، الأمر الذي دفع مارك زوكربيرغ إلى القول بعد نشر فيديو قتل على فيسبوك “لدينا الكثير من العمل للقيام به”. مع كل ذلك يتصاعد الضغط السياسي من قبل الحكومات الديمقراطية على الشركات الكبرى كفيسبوك وغوغل وتويتر، لتزيد من الرقابة على المحتوى المنشور في محاولة جادة لمنع انتشار الإرهاب والكراهية والتحريض على القتل. لكن إدارة فيسبوكترىفوائد المشاركة تفوق بكثير المخاطر المتوقعة مما ينشر، لكن فكرة مديرة سياسة التدبير بأن المجتمع لا يزال يدرك ما هو مقبول وما هو ضار، بحاجة إلى أكثر من ذلك في بعض المجتمعات، والحال أن مجرد إطلاق مثل هذا الكلام يجعل الرقيب المقتول يهنأ في قبره، وربما يستعد للعودة إلى الحياة ليكون الميّت الأول الذي يحيا ثانية في العصر الرقمي! كاتب عراقي مقيم في لندن باهر/12

مشاركة :