أصوات النهامين تخفت فوق سفن البحارة في الخليجيعد فنّ “النّهمة” من أهم أنواع الغناء الشعبي البحري المعروفة منذ القدم في منطقة الخليج العربي، حيث كان النهام يطلق من على سطح السفينة العديد من الأنغام والألحان البحرية تحت ظلال شراع السفينة وكانت همة البحارة تزداد وهم ينصتون إلى صوته الشجي عندما يردد المواويل الشعبية التي تهزهم عند سماعها فتحرك شجونهم وتمدهم بالطاقة والحيوية اللتين تساعدانهم على إنجاز المهام الموكلة إليهم في رحلة البحر المحفوفة بالمخاطر.العرب [نُشر في 2017/05/27، العدد: 10645، ص(20)]أهازيج مستوحاة من أغاني البحارة القديمة الكويت - دعا عدد من النهامين في دول الخليج أثناء مسابقة نهام الخليج التي نظمتها قطر في شهر أبريل الماضي إلى زيادة الاهتمام بالتراث الغنائي الشعبي وخاصة الفنون البحرية، مؤكدين ضرورة وجود الدعم الحكومي من أجل الحفاظ على الفنون المهددة بالاندثار بسبب ابتعاد الشباب عن ممارستها. وفن “النهمة” أحد الفنون الشعبية البحرية القديمة التي كانت مقتصرة على البحر والبحارة في سواحل الخليج ما بين البصرة وسلطنة عمان، تغنى بها البحارة حينما كانوا يجوبون البحار بسفنهم للغوص أو التجارة سعيا وراء قوتهم. والنهمة (بتشديد النون وتسكين الهاء) تعني بلوغ الهمة أو الصوت الزجر وقد تحولت بمرور الزمن من لهو بحري لتشجيع البحارة على القيام بأعمالهم إلى فن بحري خالص له قواعد ثابتة بالاداء وإلى لون من الغناء الجماعي الفلكلوري يصاحب البحارة منذ بدء رحلتهم في عرض البحر ومقارعة الأمواج والعواصف والعمل الشاق. لا سفينة بلا نهام يسمى المطرب البحري النهام، ويعد الركيزة والمحور الذي يقوم عليه الغناء وهو الاسم الذي يطلق على مغني السفينة ويتجاوب البحارة مع ما يصدر عنه من أغان تعبر عما في صدورهم من ألم الفراق والبعد عن الديار كما كان يشجع بغنائه كل من على السفينة على تحمل المشاق والصبر بالابتهالات والدعاء كنوع من بدايات العمل. وللنهام عدة صفات يجب توافرها أبرزها قوة الصوت وطبقاته كي يزود البحارة والغواصين بالطاقة حيث كانت الأغاني تبدأ دائما بذكر الله. وتعد مهمة النهام أساسية في أي رحلة ولا تكاد تخلو سفينة من نهام إلى ثلاثة نهامين يتقاضون أضعاف ما يتقاضاه البحارة. وتغنى بهذا الفن الخليجيون القدامى وصدحوا بـ”اليامال” متأثرين بخليط من الفنون العدنية والخليجية والهندية والأفريقية نتيجة اتصالهم بتلك الشعوب مستلهمين من أصوات الموج وهدير البحر وصرير الصواري في تشكيل غنائهم البحري. ويقول الباحث والفنان فتحي الصقر لوكالة الأنباء الكويتية (كونا)، إن “فن النهمة متشابه في الخليج ليست فيه اختلافات إلا في التنازيل (أي الأغنية) أو الشيلات إذ تكثر الشيلات في قطر والبحرين والإمارات وعمان مقارنة بالكويت”.ضرورة الاهتمام الأكاديمي بالفنون الشعبيــة وتوفيــر مراجـــع للشباب المولعين بحماية التراث الفني من الاندثار وأشار الصقر إلى أن “الاختلاف أيضا في السرعات وفي أداء الغناء (المد) ونوعية الغناء”، مسترشدا بالاختلاف بين فن الدواري في البحرين والكويت. وذكر أن الاختلاف يكون أيضا في طريقة العزف وفي أداء الخطفة (وهي من الأغاني التي تؤدى أثناء رفع الأشرعة أو خطف الشراع)، فرغم أنها من نفس الميزان إلا أنها تختلف في الأداء إذ أن أهل البحرين أسرع في أدائها. كما يعرف عنهم أنهم يمدون في غنائها. أما أهل الكويت فإنهم يأخذون الطابع الثقيل والسهل الممتنع في أداء الفنون البحرية ولا تغلب عليهم السرعة في أداء الأغاني البحرية بل إن سرعتهم تعد متوسطة. وأوضح الصقر أن “أهل الكويت تميزوا بفن الصفقة الذي يعد قويا وكانوا لا يفضلون السرعة فيه، في حين أن أهل البحرين مثلا وفي فن الحدادي (وهو من أغاني الترفيه والسمر والترويح عن النفس وليس العمل) يدخلون الصفقة في أي وقت وتستمر للحظات وتنتهي” وغناؤهم دائما سريع الوتيرة حتى في الفنون الأخرى كـ”الخماري”. وينفرد أهل الكويت عن سائر دول المنطقة بفن السنكني، بكسر الكاف، نتيجة لأسفارهم خلافا لأهل البحرين وقطر الذين كانوا يمارسون الغوص فقط. ومن خلال ما سمعوه في أسفارهم من إيقاعات وأصوات لأجراس الكنائس خرج الكويتيون بفن السنكني وهي كلمة تعني ثقيلا، فكأن اسمه الفن الثقيل وهو فن يحتوي على أجزاء كبيرة ومعقدة في الإيقاعات والأداء والرقص وهو الوحيد الذي يحتوي على آلة نفخ (الصرناي) أو المزمار. وفي هذا الإطار قال الباحث علي صالح الرومي إن فن “السنكني يمارس أثناء الاحتفال بترميم السفينة بعد الانتهاء من تصليحها وسد الفتحات وصبغها لتصبح جاهزة للإبحار”.من يحتفظ بموروث الأجداد الغنائي مدارس مختلفة في الأداء قال الرومي إن “كل دولة في الخليج لها مدرسة مختلفة في أداء النهمة وذلك بحسب الأغاني الخاصة بالعمل، فأهل البحرين تميزوا بـ’اليحلة’ وهي نوع من الفخار واستخدمت كإيقاع ثم أخذها أهل الكويت منهم”. ولكون البحرينيين والقطريين من أهل الغوص فقط فإنهم يقضون فترة أقل في البحر، لذا انتشرت فنون الترفيه والسمر عندهم أكثر من فنون العمل، فتميزوا بـ “الدور” المنتشر على ساحل البحر حيث يتجمع فيه البحارة لأداء جلسات يطلق عليها اسم الأنس يتسامرون فيها ويغنون العديد من الفنون مثل الحدادي والفجري. ويعد فن الفجري من الفنون التي انطلقت أساسا من أهل البحرين والمتعارف عليه لديهم بأنه يكون فقط في حال وجدت معه عدة آلات. أما فن الحدادي الذي وصل إلى الكويت من البحرين أيضا فهو من “الحداي” ويبدأ بـ “الزهيرية” قبل بداية الغناء ويطلق عليه أهل الكويت اسم “اجراحان” وتعني اشرح وقيل اجرح، والحدادي دائما يبدأ بزهيرية لا بموال. وتميز أهل عمان والإمارات بالشيلات ويعتمدون عليها أكثر من “النهمة” وغلب عليهم هذا الطابع لعدم توفر الوقت الكافي للسمر لأن منطقتهم أقسى من باقي دول المنطقة وذلك لبعد مغاصات اللؤلؤ. ولم يكن في رحلات غوصهم الكثير من عدة الفنون كالطبول وغيرها ونتيجة لذلك اعتمد الإماراتيون أكثر على الأداء الصوتي والضرب بالأقدام على سطح السفينة، في حين استخدم الكويتيون الإيقاعات في سفنهم. كما اختلفوا أيضا عن الكويت والبحرين وقطر في اللحن لأن معظم غنائهم “سواحلي” من زنجبار وأفريقيا واعتمادهم على الشيلات يحدث عندما يكون النهام غير موجود على السفينة حالهم حال معظم أهل دول الخليج. شباب ينقذون النهمة رغم أن فن النهمة مهدد بالاندثار إلا أن هناك فئة من شباب الخليج تهتم بالتراث وتعمل على المحافظة عليه من الزوال. يقول الفنان محمد الصايغ إن حفظ هذا التراث يبدأ من توثيقه بشكل علمي وأكاديمي وهي مهمة ليست بالأمر الهين، إذ تحتاج إلى تكاتف غالبية المهتمين بالشأن الثقافي والتراثي في دول الخليج. ويدعو المتخصصون إلى ضرورة حفظ التراث الشفهي ممن هم على قيد الحياة. ويقول النهام الإماراتي محمد علي خميس من دولة الإمارات إن فن النهمة اندثر بالفعل من دولة الإمارات ولم يعد يعرفه أحد، مؤكدا أن فنانا واحدا فقط كان يؤديه وانتقل إلى رحمة الله والآن لم يعد هناك من يؤدي هذا الفن الذي كان فنا أصيلا في ماضينا. ويؤكد أنه حرص على المشاركة في مسابقة نهام الخليج التي نظمتها قطر في شهر أبريل الماضي حتى تكون للإمارات مساهمة في إحياء هذا الفن مرة أخرى، وأشار إلى أن لديه رغبة حقيقية في تعلم فن النهمة. النهام الكويتي سالم وليد صالح يؤكد أن المسابقات والمهرجانات تعيد للنهمة قيمتها وأهميتها اللتين كانت عليهما في السابق، وتعرف الجيل الحالي بهذا الفن الذي بدا يلفه النسيان، فالكثيرون من الشباب لا يعرفون عنه شيئا. ويقول النهام البحريني أحمد عبدالله جمعة إنه وبالرغم من حداثة عهده بفنون النهمة إلا أنه عشقها وكان حريصا على أن يتعلمها بشكل كبير، وهو الأمر الذي دفعه إلى البحث في هذه الفنون ومحاولة تعلم كل أشكالها وألوانها لدى أهل الخبرة وأصحاب الفرق الشعبية الذين تميزوا بها. ويتمنى جمعة أن تكون هناك جهة خليجية تهتم بفن النهمة وتقوم بدعم مهرجان أو مسابقة على مستوى الخليج حتى يزداد الاهتمام بهذا الفن ويعرفه الشباب ويمارسونه. ويقترح أن يكون هناك اهتمام أكاديمي بالفنون الشعبية وأن تكون لنا مراجع يستطيع الشباب المولعون بالفنون التراثية العودة إليها والاستفادة منها في جمع المعلومات عن مختلف الفنون المهددة بالاندثار.
مشاركة :