أيقن شباب الثورة أن حكاية «عيش حرية عدالة اجتماعية» لم تعد مجدية. فالشعار البراق الذي هز أرجاء «ميدان التحرير» على مدى 18 يوماً من أيام ثورة يناير، وظل يهزه بين الحين والآخر في فعاليات ثورية متفرقة ومتعددة على مدى عامين ويزيد قابع في برج عاجي. برج الشعارات الرنانة البراقة التي لا تسمن من نقص العيش أو تغني عن تبدد هواء الحرية أو تحقق العدالة الاجتماعية المسلوبة لم يعد يتمتع بالشعبية نفسها التي حظي بها قبل أشهر. وعلى رغم تلبد الأجواء السياسية وتعثر الأوضاع الأمنية وانسداد الحوارات المجتمعية، إلا أن كثيرين من الشباب المصري ممن آمنوا بثورة يناير وعاشوا حلمها إلى أن تحول كابوساً بدأوا ينبشون في دفاترهم القديمة، ويعيدون ترتيب أوراقهم المبعثرة، ويحاولون الخروج بتصور واقعي ينقل ثورتهم من برج الشعارات إلى أرض المطالب. «تعليم تربية حضارة مصرية» هو الشعار الجاري حالياً تحميله في أروقة شبابية مصرية عدة. فبعد ركوب الثورة ركوباً كلياً من قبل جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، وبعد انكشاف وجهها الحقيقي منذ الانقلاب الشعبي على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته، وبعد التأكد من حجم التجريف الذهني والتغييب العقلي الذي تدور رحاه في مصر منذ سنوات طويلة وكانت نتيجته أجيالاً خضعت لغسل الأدمغة وسلب إرادة التفكير بعيداً عن توجيهات الجماعة والخلايا، بعد ذلك كله، بات من الواضح أن الحاجة ماسة إلى نسف نظام التعليم القائم على البصم والحفظ وتجريم السؤال خارج المنهج. وبات ضرورياً أيضاً البدء بمراجعة شاملة لأسلوب التربية والتنشئة المعتمد على العيب والحرام من دون سند أو سبب، والحضارة المصرية التي طغت عليها ثقافات واردة عبر الحدود. ولأن التفكير لا يخضع لعقبات الحدود ومكبلات المعايير ومحابس المقاييس، فإن الدراسة التي صدرت عن الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة قبل أشهر والتي أشارت إلى أن الشباب المصري ضحية القصور في أسلوب التربية والتعليم في مصر، لم تأت مفاجئة لا سيما للشباب أنفسهم. فنظام التعليم المدرسي وعلى رغم محاولات تحديث مناهجه وتطوير أدواته بين الحين والآخر ظل عقيماً جامداً مخلفاً المزيد من الجهل وجمود الفكر. يقول تامر وجيه (25 سنة مهندس) إن التعليم في مصر ظل قائماً على العدد وليس المحتوى. «ظل النظام السابق يفاخر بنسب الالتحاق بالتعليم الآخذة في الزيادة، ولم يتلفت إلى تدهور النوعية ومحتوى المناهج ومستوى خريج الثانوية العامة. هذا بالطبع بالإضافة إلى المعلمين الذين يساهم الكثيرون منهم – دون قصد- في تدهور العملية التعليمية برمتها». ويتذكر وجيه كيف أن أحد معلميه في المرحلة الإعدادية عاقب زميلاً له لأنه سأله سؤالاً حول أسباب عدم المساواة بين المرأة والرجل في الميراث». ويلتقط صديقه خالد حسين (24 سنة) خيط الحديث التعليمي ويشير ساخراً إلى أن المعلمين أنفسهم وواضعي المناهج والامتحانات أنفسهم الذين كانوا يبجلون نظام مبارك تحولوا إلى التطبيل للمجلس العسكري ومنه للرئيس المعزول محمد مرسي، وهي جرائم تؤدي إلى زرع خلايا النفاق وبذور التدليس لدى أجيال بأكملها» كما يقول. ويتابع: «ناهيك بالطبع بمشكلة أزلية أخرى ألا وهي الخوف والرعب اللذين يصيبان الكبار عموماً في حال سأل الصغار سؤالاً دينياً لا يعرفون إجابته أو دار يوماً بخلدهم ووبخهم آباؤهم حين طرحوه، فاعتبروه من الكبائر»! كبرت أجيال متعاقبة في مصر على أسلوب تربية يعتمد على تعظيم الحاكم الذي قد يكون المدير أو رئيس مجلس الإدارة أو الرئيس، وتسفيه المعارض والمحتج والمتسائل عن ظواهر لا يفهمها البعض، وتبجيل كل من ارتدى عباءة الدين حتى وإن كان لا يعرف من دينه شيئاً. «أنت عدو ما تجهل! ومن ثم فإن سؤالاً يوجهه إليك صغيرك عن سبب الظلم في الدنيا، ومصير غير المنتمي للدين لكنه يراعي ضميره في عمله وحياته، وسبب منع المرأة في دول بعينها من استخدام عقلها يؤدي بك إلى الغضب والعصبية واتهامه بالشقاوة وقلة الأدب»! هكذا تقول ربا عبد الرحمن (19 سنة طالبة) والتي تربت بهذه الطريقة كغيرها من ملايين المصريين والمصريات على مر العصور. «لكن الفرق في الأجيال الجديدة هو امتلاكها أدوات المعرفة المستقلة عن الأهل والكبار. ولمن يريد أن يعرف أن يبحث ويتقصى ويفكر ويحكم عقله ويصل إلى إجابات تشفي شغفه بالمعرفة، إن أراد»! وإذا أراد الأهل والكبار اللحاق بأبنائهم في رحلة البحث ومسيرة التفكير النقدي الذي لن ترتقي من دونه مصر، فعليهم اتباع وسائل مماثلة وخلع رداء «عيب أسكت» والتنازل عن إجابة «من غير ليه» رداً على أسئلة الصغار التي تبدأ بـ «ليه؟» (لماذا)! لماذا سرقت ثورة يناير؟ ولماذا تفرق المصريون وتشتتوا؟ ولماذا يتجلى صراع بين الدين والدولة؟ ولماذا انقسم المصريون إلى إسلاميين يكفرون من حولهم ومسلمين ومعهم مسيحيون يرون في الإسلاميين إرهابيين ودعاة تطرف؟ أسئلة منطقية تفرض نفسها على رؤوس كثيرين من الشباب الذي يقف هذه الأيام متأملاً ما آلت إليه أمور الثورة وأمواجها وما آلت إليه أحوال الوطن وميادينه. يقول أحمد العسال (26 سنة) إن ما يحدث في مصر حالياً بعد عامين ونصف العام من ثورة يناير هو كشف لحقيقة ما جرى في مصر على مدار العقود الماضية من إهمال للمواطنين، وفساد للحكم، وتغييب للفكر الديني الوسطي المنطقي، وغلبة لمظاهر ثقافية واردة عبر الحدود. ويضيف: «كثيرون من المصريين سافروا إلى دول خليجية بحثاً عن الرزق وتحسين مستوى المعيشة، وبعضهم عاد محملاً بأموال وفرها وقشور ثقافية لا تمت بصلة للثقافة المصرية والحضارة الضاربة في القدم، وبالتالي تحولت الهوية إلى مسخ لا هو بالمصري ولا هو بالخليجي». ويضاف إلى الهوية نجاح مدارس دينية متشددة ومتعصبة في ملء الفراغات التي خلفها الأزهر على مدى عقود. زوايا المساجد والمشايخ من غير الدارسين في أروقة الأزهر الشريف وفي غياب شبه كامل عن قواعد الدين السمح تحكموا من خلال جمعيات وجماعات خيرية دينية تقدم العلاج والعمل والغذاء في إطار ديني يشترط انضمام المنتفع للجمعية لضمان الثواب في الآخرة والعضوية في الدنيا. «تعليم تربية حضارة مصرية» شعار ينبغي أن يميز المرحلة الانتقالية الجديدة بعد انقلاب الشعب على حكم الجماعة. فالشعب المتعطش للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية لن يحققها إلا بالتعليم والتربية والتمسك بالحضارة المصرية، أو هكذا يؤمن شباب ثورة يناير.
مشاركة :