من التجارب التنموية الناجحة ما حدث في بعض دول شرق وجنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وقبلها التجربة التنموية العظيمة لليابان. فبعض هذه البلدان، كانت دولاً فقيرة متخلفة مثل كوريا الجنوبية التي كانت في الستينيات الميلادية من القرن الماضي واحدة من الدول النامية التي تعاني من كل مظاهر التخلف الموجودة في بلدان العالم الثالث. دخلت هذه الدول في شراكات اقتصادية مع بلدان متقدمة، فجذبت إليها الاستثمارات الأجنبية ومعها التقنية ورؤوس الأموال، وأقامت قطاعات صناعية عملاقة عززت اقتصاداتها وقدراتها التصديرية ووفرت الوظائف لمواطنيها. في البداية كانت تلك الدول مجرد مستوردة للتقنية، وبالتدريج تعلمت أسرار تلك التقنية وقلدتها ثم طورتها، وأصبحت رائدة في بعض المجالات التي تتطلب الكثير من البحث العلمي مثلما فعلت كوريا الجنوبية في صناعة الإليكترونيات والسيارات والسفن وشبه المُوَصِّلات. وقد وقعت المملكة مؤخراً أثناء زيارة الرئيس دونالد ترامب اتفاقيات عدة مع شركات أمريكية كبرى بمبالغ هائلة، ومنحت الهيئةُ العامة للاستثمار تراخيص عدة لشركات أمريكية بملكية كاملة أو بشراكة محلية. وكانت هذه الاتفاقيات محل اهتمام الصحافة الاقتصادية العالمية لأن تأثيرها على الاقتصاد السعودي سيكون عظيماً إذا ما استنسخنا التجربة التنموية الآسيوية وطعّمناها بتجربتنا وبظروف اقتصادنا وبما تعلمناه من نجاحات وإخفاقات خلال مسيرتنا التنموية. إن أول ما يجب أن يتحقق من هذه الشراكات والاتفاقيات هو نقل التقنية وإشراكنا في معرفة أسرارها ثم تطويرها وألا سنظل مجرد مستوردين لتقنية لا نعرف شيئاً عن أسرارها ولا نستطيع الفكاك من اعتماديتنا على أولئك الذين صدروها لنا. يقول «لي ميونيج باك» الرئيس التنفيذي لشركة هيونداي الكورية العملاقة والذي أصبح بعد ذلك رئيساً لكوريا الجنوبية، إن شركته أرادت في بداية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي الدخول في مجال بناء المحطات الحرارية والنووية، لكن كوريا لم تكن تملك التقنية للدخول في هذا المجال المتقدم والمعقد، فما كان من هيونداي إلا الدخول في تحالف مع شركة «ويستنجهاوس» الأمريكية العملاقة المتخصصة في هذا المجال ضمن مجالات أخرى، ومن خلال تلك الشراكة استطاعت هيونداي أن تتعلم تقنية تلك الصناعة، ولم ينتهِ عقد السبعينيات إلا وقد أصبحت شركة هيونداي واحدة من الشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. لكن الوصول إلى ذلك الهدف لم يتحقق بشكل تلقائي وإنما بجهد مدروس من الشركة التي وضعت خطة لكوادرها البشرية بحيث يتعلمون ويحذقون أسرار تقنية بناء المحطات الحرارية والنووية. واليوم أصبحت كوريا الجنوبية من الدول المعروفة عالمياً في هذا المجال، وقد كان من المدهش أن يتحقق كل ذلك خلال عشر سنوات!! أما الجانب الثاني المأمول من توقيع الاتفاقيات مع الشركات الأمريكية فهو توفير وظائف ذات قيمة فائقة لأبنائنا وبناتنا. فمع الإدراك أن وجود بعض الكوادر الأجنبية المتخصصة هو أمر مهم في البداية، فإن من الضروري فتح المجال واسعاً لتوظيف أبنائنا وبناتنا وبخاصة بعد أن أصبحت لدينا أعدادٌ وافرة من خريجي جامعاتنا ومن العائدين من البعثات ممن يملكون التأهيل العلمي المطلوب ولا تنقصهم سوى الخبرة التي لن تتحقق إلا بالتوظيف والممارسة. نأمل أن نرى كل ذلك متحققاً عندنا خلال فترة لن تطول إن شاء الله، فمثلما استطاعت بلدان شرق وجنوب شرق آسيا تحقيق ذلك لن يكون من المستحيل أن نحققه نحن أيضاً.
مشاركة :