عندما تغير القاهرة من التوجهات والسياسـات لا بـد أن تربك حسابات الخصوم الذين درجـوا على التصـرف بعنف وخشونة وهم يدركـون أن رد مصر لن يتجاوز حدود التصريحات والشجب والإدانة.العرب محمد أبو الفضل [نُشر في 2017/05/29، العدد: 10647، ص(8)] في غالبية التصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن الإرهاب، لم تكن مراكز الإرهاب خارج بلاده غائبة عن ذهنه، وفي كل مرة تعرضت فيها مصر لعمليـة إرهابية كـان هـذا البعـد حاضرا بصورة مباشرة، لكن بدت القيادة المصرية مكبلة في مطاردة الإرهابيين خارج الحدود، خشية اتهامها بالتعدي على دولة أخرى. الظاهر أن هذا الكابح أعاق القوات المصرية كثيرا في الوصول إلى مراكز الإرهاب الحقيقية، وجعل جهودها تنصب على سد المنافذ الداخلية، ورغم المحاولات الحثيثة التي بذلت في هذا المسار تسربت عناصر ومعدات عديدة، منحت الإرهابيين قوة دفع وتغذية مكنتها من الاستمرار في مقاومة السلطات الأمنية والوصول إلى أهداف نوعية. المرة الأولى التي أعلنت فيها القاهرة صراحة مطاردة إرهابيين خارج الأراضي المصرية كانت مطلع عام 2015، عندما قامت عناصر تنظيم داعش بذبح 21 قبطيا مصريا في سـرت الليبية، وقتها شن الطيران ضربات مكثفة على مراكز تابعة للتنظيم في ليبيا، وتعرضت القـاهرة لانتقـادات من بعـض الجهـات، بذريعة عـدم احترام القــانون الدولي والاعتداء على أراض دولة مجاورة. لكن الانتقادات تلاشت أو اختفت تقريبا، عندما أعلنت القاهرة مساء السبت شن ضربات جوية على مراكز تدريب تابعة لما يسمى بـ”مجلس شورى درنة” في شرق ليبيا، وبدت القيادة المصرية منتشية بالهجمات التي جاءت ردا على مقتل 29 قبطيا وإصابة آخرين في محافظة المنيا (وسط مصر)، بل ولوحت بأنها تنوي مطاردة الإرهابيين خارج الحدود. هذه الخطوة كانت ضرورية منذ زمن، وتعطلـت كثيرا لأن الأجواء الإقليمية والدولية لم تكن مواتية تماما، فبعض الدول المؤثرة تستثمر في حماية الجماعات المتشددة وترى أنها قادرة على تحقيق مصالحها، الآن انقلب السحر على الساحر، وأيقنت بعض الجهات أن هناك خطورة من تضخم المتطرفين والإرهاب في الشرق الأوسط إلى الدرجة التي أدت إلى تعرض دول غربية مثل بريطانيا التي لديها تعاطف نسبي مع جمـاعة الإخـوان المسلمين، لهجمات مؤثرة في مانشيستر الأسبوع الماضي. هجمات مانشيستر وغيرها، في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، كانت كفيلة لتغيير الدفة وإحداث تحـول في المعـادلة التقليدية للتعامل مع الحركات المتشددة، ناهيك عن نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام غريمه باراك أوباما، والذي وضع (ترامب) ضمن أولـوياته مكافحة الإرهـاب وفقـا لقواعد جديـدة، لا تتجـاهل الـدول التي تمـوله وتدعمـه وتوفر لعناصره مـلاذات آمنة. قمة الرياض الأميركية العربية الإسلامية وما تلاها من تداعيات، نقطة أخرى مفصلية في التوازنات الجديدة، والكلمة التي ألقاها الرئيس السيسي أمامها تركت في صراحتها ووضوحها بصمة لافتة عند كثيرين، لأنها أشارت إلى أقصر الطرق لمكافحة الإرهاب بلا مواربة أو دبلوماسية، وهو تجفيف المنابع أولا. الموقف الخليجي (السعودي والإماراتي تحديدا) من قطر ركيزة للشروع في مكافحة الإرهاب بجدية، وكلمات وزيري خارجية الإمارات عبدالله بن زايد والسعودية عادل الجبير أمام منتدى “مغردون”، على هامش قمة الرياض، وضعت النقاط على الحروف عندما تحدثا مباشرة عن دول تدعم الإرهاب، ونبها إلى أن وقف الدعم خطوة أساسية للقضاء عليه. كل هذه التطورات لم تكن غائبة عن ذهن القيادة المصرية لتوجيه ضربات جوية في درنة الليبية، وبدت كأنها تنتهز فرصة للقيام بهذه المهمـة، واستغلت الخيط الذي يربط بين حادث المنيا وداعش في ليبيا لتنفيذها، وبدء مرحلة جديدة من عمليات مكافحة الإرهاب. العملية الأولى التي قامت بها مصر في سرت كانت انتقامية وتصفية لحسابات عاجلة وتهدئة لخواطر الأقباط في مصر، لكن العملية الثانية في درنة يمكن التعامل معها على أنها تؤرخ لمنح الضوء الأخضر للمزيد من العمليات مستقبلا، والدور الذي كانت تقوم به القاهرة في دعم الجيش الليبي سرا، لم تعد بحاجة إليه في الوقت الراهن، لأن تنسيقها مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش ليس بخاف على كثيرين. كما أن التقديرات التي حذرت من مغبة الانخراط المباشر في الأزمة الليبية تراجعت في ظل الانكماش الذي أصبحت عليه الدول الداعمة للمتشددين في ليبيا، وخشيتها الدخول في مواجهة مفتوحة مع قوى تخلت عن مواقفها المتعاطفة معها سابقا، ورأت أن هناك ضرورة قوية في مقاربة تنظر بشمولية إلى الإرهاب بحسبانه خطرا داهما على الأمن والسلم الدوليين. التوجه المصري، جاء أيضا بعد أن قطعت قوات الأمن شوطا مهما في تجفيف المنابع الداخلية للإرهاب، وخوفا من مدها بعناصر تغذية من مناطق مجاورة في مقدمتها الأراضي الليبية والسودانية، وعقب استكمال بناء القوات المسلحة وامتلاكها معدات حديثة تمكنها من ملاحقة الإرهاب وفلوله في أماكن كثيرة، وهو ما يفسر أحد أسرار السعي المصري لعقد صفقات عسكرية عديدة مع دول في الشرق والغرب خلال العامين الماضيين. الواضح أن التعامل المصري مع الخصوم، سواء كانوا دولا أو جماعات إرهابية، بدأ يتحلل من الطريقة التقليدية الحذرة جدا والمتوجسة دوما والتي تخشى ردات الفعل الخارجية، ويتجه نحو المزيد من الجرأة ومحاولة الإمساك بزمام المبادرة، لتقليل الخسائر الأمنية والسياسية، لأن المنهج السابق الذي كان مكبّلا بجملة من الهموم الداخلية، منح الخصوم فرصة للتمادي في غيهم ضد المصالح المصرية، وفُهم وقتها على أنه يمثل عجزا في القيادة ذاتها. لذلك عندما تغير القاهرة من التوجهات والسياسـات لا بـد أن تربك حسابات الخصوم الذين درجـوا على التصـرف بعنف وخشونة وهم يدركـون أن رد مصر لن يتجاوز حدود التصريحات والشجب والإدانة. الأخطر أن مصر شرعت في التحريض على هؤلاء ضمن تفاهمها الواسع مع القوى الكبرى في ملف مكافحة الإرهاب، وربما نشهد اتساع مسرح العمليات المصري بما يتجاوز حدود ليبيا. النجاح في هذه المهمة يتوقف أولا على مدى قدرة الحكومة المصرية على تخفيف حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن لها تأييدا شعبيا لأي خطوات خارجية، وثانيا حسم معركة محاصرة العنف والإرهاب في سيناء، باعتبارها البؤرة الأشد سخونة للمتطرفين، وثالثا حجم التفاهم مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في عمليات المطاردة خارج الحدود، وعدم الصدام مع أي من مصالحها في ليبيا أو غيرها. كاتب مصريمحمد أبو الفضل
مشاركة :