العنوان أعلاه ملحمة روائية كتبها إحسان عبدالقدوس، تجسد وتوثق حرب أكتوبر وتفتح مغاليق ذلك الصراع الحضاري والقومي عبر الأجيال المتتالية، تذكرت أحداث تلك الرواية وأنا أحضر فرحا ليليا من باب المشاركة والمباركة والدعاء للزوجين بالسعادة والرفاء والبنين، وفي لحظة الاستغراق الكلامي ومحصول اللغة المخزونة التي تعودنا سكبها في مثل هذه المناسبات، عبرت فوق رأسي رصاصة حية وملتهبة، في طريقها إلى سفح جبل أبكم، لتشعل باقي عشب يابس وليرن صوتها وصداها في شعاب القرية ومآقي الجبال، هنا سكت الكلام المباح وضجت الساحات بالرصاص المتطاير والمهتاج في كل صوب وناحية، وبدأ بعض الحاضرين يركض كمن يتخبط في قاع بئر طلبا للنجاة والاحتماء في الزوايا الآمنة، تذكرت حينها الشاعر فهد العسكر وهو يقول: "الصامدون إذا الصفوف تلاحمت.. وتصادم الفرسان بالفرسان، والضاحكون إذا الأسنة والظبا.. هتكت ظلام النقع باللمعان"، لم تكن تلك فروسية ولا تدل على الاعتداد والفخر والقوة، فالحاضن لتلك المظاهر فرح لا يستدعي ذلك الموروث الغائب، والذي كان مبررا ومتناغما في لحظته كالحياة القاسية والظروف الأمنية الصعبة والجافة والموحشة، وهم يعبرون متاهات المفاوز اللاهثة والبيد الشاحبة والمهاجع المرعبة والحروب الطاحنة، ويعانون عذابات المنافي الضارية في زمن الشتات والفرقة، ترى من علم هؤلاء القوم أن التعبير عن الفرح والاستدلال عليه لا يأتيان إلا بهذا المفهوم العقيم والمعطى القاصر والاعتباطي؟ لماذا نضحي بالقيم الجمالية لهذه المناسبات والمحتوى المبهج والانفتاح على الشعرية العذبة، والرقصة الفاتنة، والإيقاع الطروب، والصفوف المتأرجحة كأعناق النخيل؟ لقد ذهبت "أيام العرب" الأولى حين صاح فيهم "بشار": "كأن مثار النقع فوق رؤوسنا.. وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه"، وصرخ فيهم "البارودي": "أقبلوا يتكلمون بألسن النيران".. تلك كانت في جبهات القتال وساحات الشرف والفداء والتنادي لصون الأرض والعرض، أما مناسبة "منك المال ومنها العيال" فلا تتفق مع تلك الحالة ولا تستدعي حضور الصوارم والقنا، "والخيل واقفة على أرسانها لطراد يوم كريهة ورهان". لقد فسر الدكتور عبدالله بن فازع القرني هذه الظاهرة بأنها "مؤشر للشعور بالنقص والرغبة في تعويض ذلك، ولذا علينا تعزيز الثقة بالنفس والانعتاق من وهم إثبات الرجولة بحمل السلاح والتباهي به، وهذا دور قادة الفكر وموجهي الرأي من وعاظ وكتاب ومربين ومشايخ القبائل، بالتعاون مع الجهات الأمنية وتكثيف التوعية الإعلامية والتحذير من خطورة هذا السلوك"، ولكن من يوقف يا دكتور هذا العبث وقنوات "يا عين هلي" الشعبية تصدع رؤوسنا كل مساء باستعراضات السلاح الفتاك ودوي الرصاص القاتل.
مشاركة :