لا بأس أن نتوسل في نشر المعرفة والثقافة بأدوات من خارج هذين الحقلين، ولا بأس أيضاً لو كانت تلك الأدوات من ذلك النوع الذي نصفه باللاثقافي أو التسويقي الذي يخدش أحياناً بهاء الفكرة وصفو أعماقها. لا بأس في ذلك كله، ما دامت النتائج تدفع عجلة التفكير والتحفيز إلى الأمام. فمع انفجار الميديا وتعملقها، بحيث لم تعد سهلة التأطير والحصار، أضحت المعرفة الكلاسيكية حبيسة الجدران والكتب السميكة التجليد، وأحياناً حبيسة قلوب الرجال، وهذا كله على نبله لا يكفي، إن كنا نروم لهذه الأفكار أن تحلّق بجناحين يليقان بزخمها وعلوّ كعبها. لعل أحد أسباب انقباض صدور الناس من الثقافة هو الإطار غير المثير الذي تقدّم من خلاله، فالصور النمطية عن المثقفين وأهل المعرفة لا تثير حفيظة البشر الآخرين كي يقتربوا من تلك العوالم التي يحلو لبعضهم أن يصفها بأبراج عاجية يسكن فيها أشخاص منفصلون عن الواقع، متبرمون منه، هازئون بأحداثياته. وهي فكرة تنطوي على مقدار من الصواب. لهذا، فإنّ تفكيك هذه الصورة يحتاج إلى أدوات مشتقة من عالم الترويج الذي أضحى هو المهيمن على فضاءات «السوشال ميديا». ففي غمرة منصات التواصل المتعدّدة، صار في الإمكان تسويق أشد الأفكار صعوبة وتعقيداً، فجزء كبير من أمية الجمهور أنه لم تُتح له فرصة التعرف على الأفكار وتقديمها في شكل لائق، أو عبر منصة تحاكي إيقاع التحوّل السريع في وسائل الاتصال والتواصل والتشبيك الرقمي. في غمرة هذه الهواجس، انبثقت جهود هناك وهناك تسعى إلى نقل المعرفة من المكتبة والمختبر إلى الشاشة، فاجترحت «مؤسسة قطر» البرنامج التلفزيوني «نجوم العلوم» الذي كشف عن نخبة مبهرة من المواهب الشابة من رواد الأعمال في العالم العربي. وفي الإمارات، تنطلق كل حين مسابقات لتشجيع المعرفة وتطوير الإحساس بالثقافة والفنون. ولعل «تحدي القراءة العربي» الذي أطلقه نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد، يعدّ أكبر مشروع عربي، لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بالمشاركة بقراءة خمسين مليون كتاب خلال كل عام دراسي، إذ أُرفق المشروع بعبارة موحية للشيخ محمد: «أول كتاب يمسكه الطلاب يكتب أول سطر في مستقبلهم». ولئن كنا كتبنا كثيراً عن دور الثقافة والفنون والمهرجانات بحقولها كافة في امتصاص احتقانات البشر وتنويع خيارات أرواحهم، والنأي بهم عن استقطابات التزمّت، فإنّ الرهان ذاته يتأكد في تعميم فكرة القراءة والإقبال على المعرفة واقتناء الكتاب، وتوفير تنافسية لتعميم الظاهرة، وكسر الحواجز بين عقول الناس وبين ما يغفو في بطون الكتب. المعرفة بوصفها منتجاً لا يضيرها أن يتم تسويقها ما دامت الغاية تنشد انتشار الفكرة وسريانها في عقول المتلقين، وحبذا لو تنبري دول عربية أخرى لتبني مثل هذه المسابقات والبرامج التلفزيونية التي لا تكتفي فقط بإبراز المواهب في الغناء والرقص والتجارب الأدائية، بل تتعمق رويداً رويداً في اكتشاف الطاقات الشابة في العلوم النظرية والعملية، وتوفير المنصات الإعلامية الملهمة التي تعيد تقديم المعرفة بطريقة جذّابة، وفي الجعبة كثير من الأفكار والتصوّرات ربما تخدم هذا المسعى وتغذّيه، ومن بينها ما كان اقترحه كاتب هذه السطور على مسؤول عربي كبير لجهة تأسيس أكاديمية لتأهيل الطلبة والموهوبين اللامعين، وتوفير كل الوسائل اللازمة لتفجير طاقاتهم، ووضعهم على سكة الإبداع المؤهّل لنيل جوائز «نوبل». وما ذلك الحلم بمستحيل لو توافرت الإرادة. المهم أن نبدأ! * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :