تقام حالياً في مدينة «ساناري سور مير» المطلة على المتوسط في الجنوب الفرنسي والتي تبعد 49 كيلومتراً عن مدينة مرسيليا، الدورة الرابعة لمهرجان الصورة المتوسطية «فوتوميد» التي تستقطب فنانين مصورين فوتوغرافيين جعلوا من المتوسط بعوالمه المــــختلفة موضوعاً لصورهم. وقبل تناول أبرز مشاركات هذا العام، لا بد من الإشارة إلى أن هذا المهرجان، وعلى رغم عمره القصير، فرض نفسه وبسرعة بين المهرجانات المخصصة للصورة الفوتوغرافية، وذلك بفضل استقطابه، منذ السنة الأولى لتأسيسه، أسماء معروفة عالمياً، كالمصور اللبناني فؤاد الخوري والسينمائي اليوناني كوستا غافراس. كما أنه أول مهرجان يقام في فرنسا ويخصص بأكمله للصورة المتوسطية. قام بتأسيس المهرجان كل من فيليب سيرينون وفيليب أولون، وهذا الأخير من مواليد مدينة سافاري، وقد ظل متعلقاً بمدينته على رغم عمله في باريس في المجال الإعلامي. ومعروف عن مدينة «سافاري سور مير» أنها مدينة بحرية صغيرة عرفت كيف تحافظ على جمالها الطبيعي وسحرها الخاص، حيث زرقة المياه تعانق السماء والتلال الخضراء، بعيداً عن العمارة الاسمنتية والتجمعات السكنية الكبيرة. كما أنها تملك مجموعة هامة من صالات العرض الموزعة على عدد من أبنية المدينة التي يرتادها الزوار سيراً على الأقدام. ويتميز المهرجان بتكريمه كل عام، ومنذ انطلاقته، لبلد متوسطي. ففي 2011 كانت تركيا ضيفة الشرف، وعام 2012 كان دور المغرب. أما العام الماضي فكان لبنان. ولم يقتصر الحضور اللبناني على حلوله ضيف شرف في الجنوب الفرنسي، إذ تم الاتفاق على نقل المهرجان أيضاً إلى بيروت وجعله محطة سنوية على رغم الأوضاع الأمنية المتقلّبة والتحديات الكثيرة. وهنا تكرست الفرادة اللبنانية بالنسبة للدول الأخرى التي اكتفت بأن تكون ضيوف شرف. وإنّ نجاح هذه الخطوة لم يكن ليتحقق لولا التعاون الكبير بين مؤسسي المهرجان الفرنسيين من جهة، ومدير مكتب السياحة اللبناني في باريس سيرج عقل والمصور اللبناني المعروف طوني الحاج، من جهة ثانية. وقد أقيم «فوتو ميد» بطبعته اللبنانية في بيروت في شهر كانون الثاني (يناير) من هذا العام، كما أنه سيقام في العاصمة اللبنانية عند مطلع العام المقبل. في دورة هذا العام في مدينة «ساناري سور مير» يحضر فن التصوير اللبناني بمشاركة سيرج نجار الذي فاز بجائزة «المعهد الفرنسي» في إطار الدورة التي أقيمت في لبنان. يقيم نجار ويعمل في بيروت، فهو يزاول مهنة المحاماة، وجاء إلى فن التصوير منذ سنوات قليلة. وقد أظهر منذ البداية تمكّنه من أدوات التصوير من الناحيتين الجمالية والتقنية، ويتميز معرضه بمقاربته المميزة لموضوع العمارة وبالتحديد عمارة بيروت. وهو يُظهر هذه العمارة بمظهر تصويري وفق أسلوب خاص يعتمد على لعبة الظلال وإبراز الخطوط الهندسية، وهذا ما يقرّب أعماله من التجريد. فهو يستعمل آلته الفوتوغرافية كما لو أنها ريشة يرسم بها وينقل من خلالها الواقع وتصوّره الذاتي له. لا يقتصر الحضور العربي في المهرجان على المشاركة اللبنانية، بل يشمل أيضاً مواهب أخرى قادمة من المغرب العربي وتتمثل في كل من الفنانة المغربية ليلى علوي والجزائري أرسلان بسطاوي. تستحضر علوي في معرضها الذي يحمل عنوان «مغاربة» روح الشعب المغربي من خلال مجموعة مؤثرة من البورتريهات لشخصيات مغربية متنوعة تنتمي إلى مناطق مغربية مختلفة وتعكس التنوع الثقافي المغربي الذي يتجلى خصوصاً في الأزياء والملامح. صور التقطت في منطقة الأطلس وساحة جامع الفنا في مراكش وفي الجنوب المغربي وهي تعكس قوة تعبيرية أكيدة يضاعف منها اللون الأسود الذي اختارته الفنانة خلفية لتلك الصور. كما أنها تعمل على توثيق ملامح محلية قد تندثر بعد سنوات بسبب العولمة وتحولات الثقافة في القرن الحادي والعشرين. أما أرسلان بسطاوي فترصد عدسته حركة النساء داخل منازلهن البائسة في حي سيدي الهواري في مدينة وهران، وهو حي شعبي عريق يطل على البحر ويحتوي على معالم أثرية لكنه يعاني من الإهمال الشديد. وتركز صور الفنان الجزائري على عزلة النساء اللواتي يعشن وحيدات مع أطفالهن ويعانين من الفقر والوحدة، وذلك كله مصاغ تصويرياً بأسلوب متين تلعب فيه الألوان ومنها الأحمر دوراً أساسياً. من الجزائر إلى مصر الحاضرة في مهرجان «فوتوميد» مع صور الفنان الفرنسي دوني دايو المقيم في القاهرة منذ سنوات طويلة والذي عايش ثورة ميدان التحرير. ومن تلك التجربة ولد معرضه المقام حالياً تحت عنوان «شهداء الثورة المصرية»، وتطالعنا فيه صور تمثل أهالي الذين ماتوا خلال الثورة. رجال ونساء وحيدون في منازلهم الفقيرة وخلفهم الجدران التي علقت عليها صور أحبــائهم الذين رحلوا. كنّا أشرنا إلى أن إيطاليا هي ضيفة شرف هذا العام في مهرجان «فوتوميد» والحضور الإيطالي متنوع وممثل من خلال أجيال عدة، منها الجيل الشاب وأصواته المكرّسة. وفي هذا الإطار لا بد من التوقف عند المعرض الاستعادي للمصور الإيطالي العالمي ميمو جوديس الذي يعد أحد رواد فن التصوير في بلده. وما يميز معرضه هو تركيزه على الصور التي خلّد فيها المعالم الأثرية العريقة في الدول المتوسطية ومنها تدمر في سورية والبتراء في الأردن... تجدر الإشارة إلى أنّ صور ميمو جوديس ليست لقطات سياحية على الإطلاق، إنها قصائد بصرية تحكي عن الغياب والموت وتحوُّل الأمكنة عبر الأزمنة. مهرجان «فوتو ميد» شهادة مهمة على الدور الذي يمكن أن تؤديه الصورة الفوتوغرافية اليوم في عملية التبادل الثقافي بين الشعوب، وفي زمن تبدو فيه الهوة كبيرة بين ضفتي المتوسط، خاصة أن الضفة الجنوبية تعيش حالياً تحولات سياسية واجتماعية كبيرة لا يُعرَف كيف ستكون انعكاساتها على المدى البعيد.
مشاركة :