القاهرة – خالد بطراوي| إنهم حقا جيل من العمالقة، ذلك الجيل من ممثلي السينما، والمسرح العرب في الاربعينات، الذي يوصف بأنه جيل العمالقة، خصوصا ان كلا منهم قد ترك علامات بارزة لفنه وموهبته في الافلام والمسرحيات التي مثلها، والتي يرى الجيل الجديد اكثرها من خلال المحطات الفضائية العربية في هذا الزمن! والقبس تحاول جاهدة، بهذه السلسلة التعرف على طبيعة التجربة السينمائية الأولى في مشوار كل نجم من نجوم السينما الذي قامت عليه مسيرته الفنية، حتى صار تاريخه صرحا عملاقا في تاريخ الفن بعامة، ولعلها تستطيع ان تنفض عن اسمائهم غبار النسيان، ونكران الجميل، الذى اسهم فيه الاعلام العربي بنصيب وافر. سينما المرأة.. هذه العبارة المختصرة، المكونة من كلمتين فقط، تنتسب الأولى إلى الثانية، أو تضاف الثانية إلى الأولى، هذه العبارة لها مدلولها المتعارف عليه في كل البلاد، إلا في مصر.. فالمقصود بالعبارة في القاموس السينمائي الدولي هو الأفلام التي تجعل من قضايا المرأة ومشكلاتها محور أحداثها، أو تلك التي تتخذ من امرأة ما العمود الفقري للاحداث. والسينما المعنية هي السينما المصرية.. والكلام لا يلقى على عواهنه، فله الأدلة التي تؤكده، والأولويات التي تدعمه. فلقد ولدت السينما في مصر على يد عزيزة أمير، التي قدمت للشاشة الفيلم الروائي الأول، الذي اعتبر مصريا، فيلم «ليلى» الذي عرض في السادس عشر من شهر نوفمبر عام 1927 في سينما متروبول بالقاهرة، واستحقت به منتجته وبطلته لقب مؤسسة صناعة فن السينما في مصر! «ليلى».. الفيلم الأول في تاريخ السينما المصرية.. فمن كان وراءه.. وكيف نفذ؟.. ولماذا استحق هذا الشرف العظيم؟.. من هنا نبدأ. نبدأ القصة الطويلة المثيرة.. كانت عزيزة أمير، أو «مـفيـدة محـمد غنيـــم»، وهذا هو اسمها الأصليش المدون في شهادة ميلادها، من مواليد دمياط عام 1901. انتقلت الى القاهرة عام 1925، حيث التحقت بمسرح رمسيس ممثلة، وظهرت أول مرة في مسرحية «الجاه المزيف» واطلق عليها يوسف وهبي، صاحب الفرقة والمسرح، اسم «عزيزة أمير»، واطلقت هـي على نفسهـا اسـم «إيزيس». تألقت عزيزة أمير، وذهل النقاد من أن تبدأ ممثلة ناشئة هذه البداية الكبيرة، ولم يعرفوا ان يوسف وهبي يقوم بتدريبها يوميا في بيتها، وأنه قرر أن يصنع منها روز اليوسف الجديدة!. في هذه الفترة عاد جنون السينما من جديد يراود مخيلة عزيزة أمير، كان حلمها الوحيد أن تصبح ممثلة سينمائية، وكانت أحيانا تشاهد الفيلم الواحد ثلاث أو أربع مرات، وكان ذلك في بداية عام 1926 مع وصول شاب تركي الى مصر اسمه وداد عرفي، وقد أتاح له تردده على مسرح رمسيس التعرف على الفنانة عزيزة أمير واقنعها، بعد أن تركت فرقة رمسيس لخلاف مع يوسف وهبي، بفكرة انتاج فيلم سينمائي تقوم هي ببطولته ويخرجه ويمثله ايضا امامها! جاء ليأكل.. وشجع زوجها الثري أحمد الشريعي، أحد أعيان الصعيد وعمدة سمالوط، الفكرة، وأسس مع عزيزة أمير شركة إيزيس فيلم، وهي أول شركة سينمائية عربية، واتفقت الشركة مع وداد عرفي على اخراج القصة التي كتبها بعنوان «يد الله». ووافقت عزيزة أمير على هذا العرض، وعهدت الى أحد المحامين بكتابة عقد الاتفاق، لكن وداد عرفي اشترط اثناء كتابة عقد الاتفاق أن تتعهد عزيزة أمير، علاوة على الاجر، ان تخصص له غرفة في فيلتها وان تلتزم طوال مدة اخراج الفيلم بتزويده بوجبات الطعام الثلاث: وجبة الفطور: وتتكون من عشر بيضات مسلوقة وقطعة جبن ابيض، وثلاثة أرغفة من الخبز الفينو، ومربى وشاي باللبن. وفي وجبة الغداء: دجاجة كبيرة الحجم وطبق خضار، وطبق أرز، وحلوى أو فاكهة. وفي وجبة العشاء: لحم مشوي وطبق أرز الى جانب ثلاث علب سجائــر مـاركــة ديمترينو، وست زجاجات بيرة الاهرام، بخلاف ثلث إيراد الفيلم، او ثمنه عندما تنجزه وتبيعه. وبعد عشرة اشهر من العمل الشاق عرضت عزيزة امير ما تم تصويره على بعض اصدقائها من النقاد والصحافيين، فإذا بهم جميعا يكتشفون أن الفيلم عبارة عن مهزلة، فمشاهده جاءت متناثرة لا رابطة تجمع بينهما، وكانت فضيحة أثبتت أن المخرج التركي يجهل ألف باء السينما، وان عزيزة أمير هي القروية التي اشترت الترام! ولم تيئس عزيزة أمير.. وقررت ان تحاول من جديد.. وأن تبدأ فيلما جديدا. وسمع محمد طلعت حرب باشا، مؤسس بنك مصر، بإصرار عزيزة أمير على هذه المغامرة التي ستلتهم اموالها واموال زوجها، وذهب الى عزيزة أمير ينصحها بالعدول عن جنونها، والعودة الى التمثيل في المسرح، ورفضت عزيزة أمير نصيحة الاقتصادي الكبير، وقالت له إنها مستعدة أن تخسر كل مليم تملكه ويملكه زوجها من أجل إخراج أول فيلم مصري! استفان يصلح ما أفسده وداد وعادت عزيزة أمير مرة ثانية واستعانت بالفنان استفان روستي من جديد، وبذلت محاولات جبارة لتُخرج من الفسيخ شربات، ولتحول الفيلم الذي لا معنى له ولا مغزى إلى فيلم حقيقي. وتطوع الصحافي أحمد جلال المحرر بمجلة الفكاهة في ذلك الوقت، وكان يمثل أدوار الفيلم، بانقاذ الموقف، فاتفق على إعادة كتابة الفيلم بطريقة تسمح باستغلال بعض المشاهد التي تم تصويرها. وغيّر أحمد جلال عنوان الفيلم من «يد الله» الى «ليلى»، وهو اسم بطلة الفيلم، واستبدلت الفنان استفان روستي بوداد عرفي، وأعيد المصور الاصلي توليو كياريني إلى موقعه خلف الكاميرا. وبدأ العمل في الفيلم، مرة ثانية بجهد اكبر.. وجدية اكبر.. وهدد وداد عرفي باللجوء الى القضاء، فسددت له عزيزة أمير بقية أجره البالغ مئة وخمسين جنيها عن الفيلم إخراجا وتمثيلا. وانتهى تصوير الفيلم.. وتحول الطابق الارضي في فيلا عزيزة امير في «غاردن سيتي» الى خلية نحل، فقد بدأ المصور في المعمل البدائي عملية تحميض الفيلم وطبعه، واستغرقت العملية عدة أشهر أخرى، أصبح فيلم «ليلى» بعدها جاهزا . وفرحت أم السينما المصرية بانتهاء شهور «الحمل» الطويلة في فيلمها البكر، واستأجرت عزيزة أمير سينما متروبول خلف محلات شيكوريل، وعرضت الفيلم في السادس عشر من شهر نوفمبر عام 1927، ودعت في حفل الافتتاح الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب باشا، وكان هذا أول فيلم مصري، وحقق نجاحا كبيرا، وتحقق «حلم مفيدة» القديم.. الكبير! لم تعد عزيزة أمير ممثلة مسرح ينتهي دورها بانتهاء عرض الرواية، وإنما غدت ممثلة سينما، نجمة سينما، مؤسسة سينما، يعيش دورها ما عاش الشريط نفسه. عزيزة أمير أثبتت أنها أصلب عودا من بعض الرجال، فقد تخطت العقبات، وارتفعت فوق الخلافات، ووصلت بفيلم «ليلى» الى بر الأمان. وقال محمد طلعت حرب باشا بعد مشاهدة الفيلم، وهو يشد على يد عزيزة أمير «لقد حققت يا سيدتي ما لم يستطع الرجال تحقيقه»، وكان هناك ايضا أحمد شوقي بك أمير الشعراء الذي قال للفنانة عزيزة أمير، وهي تستقبله قبل بدء العرض «أرجو أن أرى هذا الهلال يكبر حتى يصبح بدرا كاملا». وهكذا، بعد كفاح طويل استمر اكثر من ربع قرن، وفي عام 1952 رحلت عزيزة أمير مؤسسة صناعة فن السينما في مصر، التي كان املها في الحياة، ككل سيدة، أن تصبح أما، لكنها كانت تعزي نفسها دائما وتقول: لقد أنجبت بنتا واحدة اسمها «السينما المصرية».
مشاركة :