لم أتمنّ يوما أن أصبح فقيرا أو أولد لطبقة فقيرة، ولكنني في نفس الوقت لم أتمنّ يوما أن أولد لطبقة ارستقراطية مرفهة لا تجد دافعا للعمل ولا حافزا للإبداع.. ليس ممتعا أن تولد وفي فمك ملعقة خشبية، ولكن لا بأس في أن تولد بملعقة فضية بحيث يتولد لديك فضول وحافز لتجربة الملعقة الذهبية.. فالتاريخ يثبت أن معظم الإبداعات والانجازات (والإضافات الحقيقية في المجتمع) تأتي من عصاميين ولدوا في الطبقة المتوسطة ويطمحون للوصول لمستوى الطبقة المرفهة.. المشكلة تأتي من (أبناء) الطبقة المرفهة التي ولدت بملعقة ذهبية ولا يفهمون معنى العصامية أو الدافع للعمل والإبداع - كونهم ولدوا أصلا بحالة اكتفاء وترف يسعى إليها الجميع -.. وكان عالم الاقتصاد الأمريكي ثورستين فيبل أول من قدم مصطلح الرفاهية المظهرية The Theory of the Leisure Class لوصف حال أبناء الطبقة الأرستقراطية.. فبعد وفاة جيل العصاميين يصبح الظهور بمظهر الثراء والرفاهية هدفا بحد ذاته لدى الأجيال التالية (التي ورثت المال وولدت وفي فمها ملعقة ذهبية).. وهؤلاء حسب تعريف فيلبين يستهلكون الوقت دون انتاج ويمضون حياتهم في تنافس استعراضي - لكنهم في نفس الوقت يدركون ضرورة استمرار التدفق المالي وتحصيل ما يكفي لمنحهم مظهر الثراء والترف الكسول.. صحيح أن أبناء الطبقة الارستقراطية لا يتحملون مشاق العمل وسنوات الدراسة الطويلة، ولكنهم في نفس الوقت يسهل عليهم امتلاك الشركات والمشاريع والأعمال الخاصة - وبالتالي توظيف المبدعين من أبناء الطبقة المتوسطة، والمحتاجين من أبناء الطبقة الفقيرة.. وكنت قد اشتريت كتابا بعنوان: "لماذا يعمل الطلاب الممتازون لدى الطلاب المتوسطين، والطلاب الجيدون لدى الحكومة".. ورغم أن وقتي لم يسمح بقراءة الكتاب حتى الآن إلا أنني أعرف المؤلف روبرت كيوساكي من خلال كتاب سابق بعنوان "أب غني وأب فقير" أنصح كل أب بقراءته.. وحين شاهدت كتابه الجديد لم أتردد في شرائه وفهمت فكرته فور مشاهدة عنوانه.. فالطلاب الممتازون (ممن يحصلون على شهادات عليا ومتخصصة) سيعملون في النهاية لدى الطلاب المتوسطين دراسيا (ولكنهم ولدوا لعائلات ثرية أو امتلكوا شركاتهم الخاصة) في حين ينتهي الحال بالطلاب الأقل مستوى بالعمل لدى الحكومة (الأم الحنون التي تقدم أمانا وظيفيا مرتفعا لمن لايملك شهادة عليا أو مشروعا خاصا)... هذه التراتبية ليست جديدة ولكنها تلبس في كل عصر ثيابا مختلفة؛ فخلال العصور الوسطى مثلا كان النبلاء الأوربيون يترفعون عن العمل اليدوي، وينعمون بالثراء من خلال احتكار الأراضي وفرض الضرائب على العمال والفلاحين.. أما في عصرنا الحاضر فيمكن وصف بيل جيتس كإقطاعي معاصر يحتكر90% من البرامج المشغلة للكمبيوتر، وكارلوس سليم الذي يحتكر 86% من قطاع الاتصالات في المكسيك!! ... المهم فعلا أن نفرق بين أثرياء عصاميين انتقلوا بعملهم وكفاحهم الى مستوى الطبقة الثرية (ويرغبون بتجربة الملاعق الذهبية) وبين أبنائهم الذين لم يُجربوا طعم الكفاح والحاجة ويعتقدون أن من لايجد الخبز يمكنه تناول الكعك... فحين تولد بملعقة ذهب - وترث المنصب والثروة بلا تعب - من الطبيعي أن تفكر بحماقة الدراسة سبع سنوات (للعمل كطبيب) أو ضرورة التخرج كمهندس مدني أو معماري (يعمل تحت الشمس) أو دوافع كتابة سبعة آلاف مقال طوال عشرين عاما... !! ... إن كنت عصاميا تملك أبناء ولدوا في طبقة مرفهة فتحتاج فعلاً لقراءة المقال مجدداً..
مشاركة :