فيصل جلوللم تكن زيارة فلاديمير بوتين، إلى قصر فرساي مفاجئة تماماً، وذلك لسببين، الأول ثقافي يتصل بمعرض نظمته إدارة القصر بمناسبة مرور ثلاثة قرون على زيارة بطرس الأكبر إلى القصر نفسه، ليخطو الخطوة الأولى في تأسيس علاقات دبلوماسية مع فرنسا، وليقدم لبلاده الحداثة الغربية والأوروبية بخاصة. على هامش هذه التظاهرة اقترح السفير الروسي في باريس أن يدشن الرئيسان المعرض، فاعتبر البعض أنها بادرة حسن نية من الروس إزاء العهد الفرنسي الجديد، وكان أن تم تنظيم هذا اللقاء المتوافق مع رغبة ومصالح الطرفين.والسبب الثاني للزيارة يكمن في القطيعة التي أعلن عنها إيمانيول ماكرون خلال حملته الانتخابية حين أكد وجوب العودة إلى القواعد التي اعتمدها الجنرال ديجول، ومن بعده فرانسوا ميتران في السياسة الخارجية، والتي تقوم على عدم الاصطفاف مئة في المئة خلف الولايات المتحدة، وبالتالي البحث عن هامش واسع للمناورة بين موسكو وواشنطن أو بين بكين والعاصمة الأمريكية. الراجح أن رغبة الرئيس الفرنسي الجديد لا تتنافى مع الوقائع على الأرض، ذلك أن باريس التي قاطعت موسكو وشاركت في معاقبتها اقتصادياً على هامش الأزمة الأوكرانية، ومن بعد السورية وجدت نفسها مكبلة تماماً خلال ولاية فرانسوا هولاند الذي كان الرئيس الأكثر أطلسية في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ وصل في علاقته مع بوتين إلى حد التسبب في إلغاء زيارته إلى باريس لتدشين مركز ثقافي أرثوذكسي مقرر تدشينه من قبل بحضور الرئيسين. معلوم أن سياسة القطيعة مع روسيا أدت إلى عزل فرنسا عن لعب أي دور في الأزمة الأوكرانية المجمدة، وفي الأزمة السورية حيث خرج الغربيون من اللعبة السورية التي تديرها حتى إشعار آخر روسيا وإيران وتركيا ويحضر فيها السفير الأمريكي كمراقب هامشي.لا شك في أن معرض فرساي قد صمم «غب الطلب» لغسل الإهانة التي تعرض لها بوتين في تدشين المركز الثقافي الأرثوذكسي. وأي عظمة أكثر وأهم من ربط الزائر الروسي ببطرس الأكبر وتتويجه وريثاً لأحد أهم القياصرة الروس، وأي عظمة أهم من افتتاح صفحة جديدة في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في ظل عهد جديد تماماً، كما كان الحال مع القيصر الروسي الذي جاء إلى فرساي بعد عامين من وفاة لويس الرابع عشر (الملك الشمس) ليفتح الصفحة الأولى في العلاقات الفرنسية - الروسية وليكون الزائر الروسي الأول والأهم في تلك الفترة. وإذا كانت زيارة بوتين تسهم في كسر طوق العزلة الغربية التي ضربته بعد أوكرانيا وسوريا وقد تفتح له أبواباً واسعة لعلاقات أوروبية إيجابية وبخاصة مع ألمانيا على هامش قمة العشرين القادمة، فالصحيح أيضاً أن الزيارة تساعد فرنسا وأوروبا على مواجهة الآثار السلبية لضغوط ترامب التي لا تنقطع على أوروبا لتحميلها المسؤولية المالية عن الحلف الأطلسي. والزيارة مفيدة أيضاً لماكرون نفسه في بداية عهده وعشية الانتخابات البرلمانية. فالرئيس الفرنسي لم يتمكن من حمل ترامب على التوقف في العاصمة الفرنسية على هامش قمة مجوعة السبع كما فعل أوباما من قبل ورؤساء آخرون، وعليه فإن مجيء بوتين اللاعب الدولي الأول في الأزمة السورية واللاعب الأهم أيضاً في الأزمة الأوكرانية يمكن أن يساعد الرئيس الفرنسي المنتخب لتوه على تأسيس نفوذ دولي هو في أمس الحاجة إليه.ولا يغيب عن الذكر الدور الخفي والواقعي لوزير الخارجية الجديد جان إيف لودريان، فقد كان الوحيد في عهد هولاند الذي حقق إنجازات مهمة على الصعيد الخارجي من بينها الحرب الناجحة في مالي وإعادة بيع الفرقاطتين المخصصة لروسيا إلى جمهورية مصر العربية، وهو صاحب شعار أن فرنسا ليس لها أعداء في الشرق الأوسط غير «داعش» و«القاعدة». ويحتفظ لودريان بتأثير على الرئيس ماكرون في مجال السياسة الخارجية، الأمر الذي حمل الرئيس الجديد على نقله من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية. وأن صحت التوقعات من أن وزير الحارجية الجديد يريد إعادة رسم السياسة الخارجية الفرنسية على قاعدة شعاره المذكور، فهذا يناسب تماماً بوتين الذي دعا الدول الكبرى إلى التعاطي مع المسألة السورية من زاوية الإرهاب وترك الملف السوري الداخلي للسوريين.من الصعب الحديث عن صفقة كاملة في المحادثات بين الرئيسين الروسي والفرنسي ولكن الثابت أن البلدين اتفقا على انطلاقة جديدة يمكن حصرها في البنود التالية:* أولاً: تحديد الخلافات في وجهات النظر والعمل على ما يتفق عليه مع اعتراف كل منهما بالوقائع القاهرة على الأرض وبخاصة في الأزمتين السورية والأوكرانية.* ثانياً: تشكيل فريق عمل مشترك حول الأزمة السورية ومشاورات ألمانية - روسية - فرنسية مشتركة حول الأزمة الأوكرانية على أن تنتهي العقوبات على روسيا في سياق التقدم في الحوار الثلاثي.باختصار شديد يمكن القول إن هذه القمة طوت صفحة هولاند الروسية السيئة والفاشلة، وفتحت صفحة ماكرون الواقعية والواعدة بسياق روسي فرنسي قد يذهب بعيداً. fjalloul3@yahoo.fr
مشاركة :