ألقى الشاب السوري فراس فهد أبو شعر، كلمة المتخرجين من جامعة يو سي بيركلي الأميركية العريقة لعام 2017. وتأثر الحضور بكلمة أبو شعر التي عبّرت عن أبناء جيله. ومما جاء فيها: «كم أنا محظوظ للغاية لكوني أتخرج اليوم، في زمن نشهد فيه الحظر يتزايد، والحواجز تعلو، والرسوم الدراسية ترتفع. أدرك تماماً أنني ما كنت لأقف اليوم هنا أمامكم لو لم تكن الفرصة قد سنحت لوالدي الشاب السوري عندما كان في مقتبل عمره للتحرر من الظروف الصعبة والحصول على فرصة التعلّم في ألمانيا، الفرصة التي أوصلتني إلى هنا وأحدثت تحولاً كبيراً في حياتي وحياة عائلتي. ترعرعت في بيتي الكويت، ولطالما كنت أتذكر الأخبار اليومية تروي قصة حياتي. وكان والداي قد ابتكرا فكرة بارعة لتشغيل قناة «سي إن إن» كمنبّه لنا في الصباح. وبما أن منطقة الشرق الأوسط لم تكن تخلو من الأزمات السياسية كانت أحداثها تتصدر الأخبار الصباحية عند الساعة السادسة، فأصبح هذا أسلوباً مضموناً وفعالاً لإيقاظنا للمدرسة. كان والداي يخفيان جهاز التحكم من بعد، ما يجعل ضجيج التلفزيزن دائماً ولا يمكن تحمله، بحيث لم يكن لدينا أي خيار سوى الاستيقاظ والنهوض من السرير. صوت صفارات الإنذار يعلو فيوقظنا من نومنا وأيقظ وعينا للعالم لتتولد لدينا رغبة كبيرة في وقف صفارات الإنذار وتغيير عالمنا... ذات صباح، أمسكت بالريموت، وأغلقت جهاز التلفزيون فجأة في شكل انقلاب قصير الأجل للسيطرة على تلك الهيمنة التي لا نهاية لها والتي تقتل أحلامنا في مهدها. وكشاب ثوري أعلنت من ميدان صالة جلوسنا، وأمام جمهور كبير ألا وهو جدتي، أني أريد إحداث التغيير، لا يمكن أن يستمر هذا الحال! لكن الوقت مرّ، والأمور تراجعت وبقيت هيمنة التلفزيون. تابعت قبل التحاقي بالجامعة مشاهد تلفزيونية: سورية موطن أبي يغرق في البحر بحثاً عن ملاذ بين اللاجئين. بحثت في الشاشات عن رواية حية عن الأمل والتفاؤل في الحياة لكي أتشبث بها، فلم أشاهد في الخلفية سوى تصاعد موجة رهيبة من الراديكالية والعنصرية والقومية – بشتى أشكالها- تشد عالمنا إلى الوراء. ومع اتساع إدراكي ووعيي لهذا العالم، تقلص شعوري بالقدرة. كان لي هدف. وكانت لي رغبة في إحداث فارق. ولكن بعدما خسرت بلدين في الحرب - سورية موطن أبي وفلسطين وطن أمي، هل لا يزال بإمكاني إحداث أي تغيير؟ كيف يمكنني ذلك؟ وانطلاقاً من أي منبر؟ وفي خضم بحر من الشكوك الداخلية، عبرت المحيط الأطلسي ووطئت قدماي هذه الأرض حاملاً على ظهري حقائب من الأحلام الندية. عندما وصلت إلى بيركلي، حرص والداي على التقاط صور عديدة لي إلى جانب تمثال «الدب الذهبي» («غولدن بير» رمز جامعة بيركلي) الذي كان بالنسبة إليهما تمثال الحرية الذي يحررهم من خوفهما وقلقهما المستمر على مستقبلي... هناك، وقفت وأنا الشاب الأصغر بأربع سنوات من الآن والقادم للتو إلى بيركلي، احتضن الدب احتضاناً شاملاً، وأجهل المستقبل الذي سيواجهني، ولكني كنت منجذباً نحو بريق الأمل الذي لاح لي من ثنايا اللوحة الإرشادية: «مرحباً بكم في أرض الفرص». أربع سنوات مضت على اكتشاف هذا العالم الجديد، لقد عشت وأدركت ورأيت ما يجذب الناس إلى هذه الشواطئ. هذا المكان الذي رحب بنا واحتضن تنوعنا واختلاف ثقافاتنا، ليس لأننا مسلمون أو مسيحيون أو يهود أو سيخ، ولا على أساس طبقتنا أو عقيدتنا أو عرقنا، بل قيّمنا على أساس إسهاماتنا وكفاءتنا وإثرائنا لهذا المجتمع، بينما في هذه الأثناء نشهد في كل أنحاء العالم التعصب خلف ستار الوطنية والانقسام تحت عباءة الدين بذريعة بناء الأوطان وصون الأديان، ما يثير في الناس الخوف والعنف والكراهية. هنا، تعلمنا وتمكننا من التفكير بحرية، والطموح والتطلع بحرية، بأفكار تمكننا من تغيير عالمنا بدل التسليم بالواقع. كنت دائماً أبحث في شاشات التلفزيون عن رواية حية جديدة للتحرر من هيمنة الخوف المستمر الذي فرض نفسه عليّ، وتمكنت من الاستلهام من تجربة مارتن لوثر كينغ بالضغط باستمرار على المؤسسات من الخارج حتى أعاد تشكيلها من الداخل، فقد حطمت هذه الأفكار قيود العقل وحررتنا ومنحتنا الجرأة على خلق فكر مختلف، وأن نكون أصحاب مبادرة بدل أن نكون أسرى الواقع. لقد وضعوا الريموت في يديّ. في أيدينا، مرة أخرى لنتحكم في قصة حياتنا. أحد أصدقائي في مكان مختلف تماماً من العالم طُلب منه إبداء رأي في امتحان، وما إن قدم رأيه حتى جاءه الرد من خلال إشارة خطأ كتبت بخطٍ عريض (X)، وتساءل: «كيف يمكن أن يكون خطأ وهذا هو رأيي؟»، فكان الجواب «هذا رأيك، لكنه ليس الرأي الذي نبحث عنه ...».
مشاركة :