العربي بنجلون يتمرد على خطية السرد، حيث يجنح به خيال القاص أحيانا إلى كتابة إبداعية منفلتة.العرب [نُشر في 2017/06/01، العدد: 10650، ص(15)]العربي بنجلون: في سيرتي الثانية استغنيت عن الجو الرومانسي والإيحاءات الرباط - يستقي كتاب السيرة الذاتية "أنا الموقّع أسفله" للأديب العربي بنجلون عنوانه من إقرار الكاتب في الصفحة الأولى منه بأن “كل الوقائع التي تضمنتها سيرتي حقيقية، ليست لوقعتها كاذبة، عشتها بالطول والعرض، وما زلت أخوض في الوقت الضائع منها”. في مؤلف “أنا الموقع أسفله”، الصادر حديثا في نسخة ثالثة مزيدة ومنقحة، يتمرد العربي بنجلون على “خطية السرد”، حسب تعبيره، فقد عزف عن بدء العمل على ما جرت عليه عادة كتاب السيرة، بسنة الولادة ومكانها، والعائلة والمحيط الاجتماعي، وتأثير كل ذلك على النشأة، ثم الدراسة، فالجو الفكري والثقافي والسياسي وغير ذلك من الأحداث المتسلسلة. يجنح ببنجلون في سيرته خيال القاص أحيانا إلى كتابة إبداعية منفلتة، ففي فصل بعنوان “مذكرات كارلوس زمانه”، يخرج الفدائي الدولي من المرآة، يحاوره ويجادله ويتهمه بانتحال صفته، ويجري الكاتب حوارا على لساني الحكيم دبشليم وبيدبا، شخصيتي كتاب “كليلة ودمنة” لعبدالله بن المقفع، في ختام المذكرات ذاتها. لكن المؤلف يعود ليذكر في ختام هذه المذكرات أنها “حقيقية، ليس لوقعتها كاذبة، وليست محض خيال أو أوهام، أو أضغاث أحلام، وكل الأسماء والتواريخ حقيقية، كما رواها كارلوس زمانه لتشهد على المرحلة، وهي غيض من فيض”. لا يكتب بنجلون سيرة حياته فحسب، بل يكتب من خلالها وقائع اجتماعية، كما هو الأمر في فصل “يومية بوعياد”، وثقافية وأحداثا تاريخية شهدها المغرب أو عانى منها على مدى العقود الأخيرة، وعايشها المؤلف في طفولته ويفوعته واكتمال نضجه. ويستحضر المؤلف أحداثا ومواقف مرت به، وكذلك شخصيات عرفها عن كثب من قبيل الفنان الشعبي حمو اليزيد أولعصيم الملقب بـ”فريد الأطلس” الذي كان يشتغل ممرضا في مستوصف بلدة عين اللوح، الذي عرفه وهو طفل وتألفت بينهما صداقة متينة لم يفصم عراها إلا رحيله المفاجئ. وبعنوان “في الخابية” يورد المؤلف فهرسا للمواضيع السبعة عشر التي يتضمنها الكتاب، ومنها “الدناصير”، و”الميت الحي”، و”الشيطان الصغير”، و”السقوط الكبير”، و”أولئك آبائي فجئني بمثلهم”، و”سير حياة… سير كتابة”. وفي “عتبة” الكتاب، يقول العربي بنجلون إنه يعتبر سيرته الذاتية الثانية هذه، بعد إصداره “سفر في أنهار الذاكرة” (1987)، تتمة وإضافة له، بل توضيحا وتفسيرا لبعض الأحداث التي لم يكن يملك الجرأة لسردها حرفيا في ذلك الحين. ويوضح بنجلون أن كتابه الثاني يتميز عن سالفه “باستغنائه كليا عن ذلك الجو الرومانسي الشاعري، وما يتضمنه من إيحاءات، ورموز وإيماءات وومضات، ينفرد بها الشعري عن النثري”. وفي فصل “ذلك الطفل الذي كنته”، يورد قصة ميلاده في بيت بـ”درب الحمام” بفاس، حيث كانت توجد أول مطبعة في المغرب حسب فقيه الحي، قبل أن يدخل مدرسة “أكومي الحرة”، هذه المدرسة، وغيرها كثير، أنشأها الزعماء السياسيون المغاربة، أو بإيعاز منهم، لتعليم اللغة العربية، ومجابهة المد الثقافي الاستعماري. وتحدث عن “المولود الأول” وهو كتابه “تيار الوعي في الأدب المغربي المعاصر”، وسفرياته العديدة إلى بلدان عربية وأجنبية، وعن الصداقة التي جمعته بالعديد من الأدباء والكتاب والناشرين مثل الأديب الراحل أحمد عبدالسلام البقالي والشاعر الراحل محمد الطوبي والناشر محمد القادري الحسني، موردا، في ثنايا سرده، طرائف ونوادر عاشها أو كان طرفا فيها. الخيط الناظم بين فصول الكتاب هو تشديد العربي بنجلون على فعل القراءة؛ فكلما أتيحت له فرصة الحديث عن القراءة تطرق إلى أهميتها بالنسبة إلى الصغار والكبار على حد السواء، ودورها في الرقي بالمجتمع وتنمية الحركة الاقتصادية قبل الفكرية، موردا أمثلة ونماذج من بلدان متعددة مثل دعوة كتاب فرنسيين شركة السكك الحديدية إلى كتابة مقاطع شعرية على ظهر تذاكر السفر، وتجربة طوني بلير زعيم حزب العمال البريطاني الذي قاد حملته الانتخابية تحت شعار “مكتبة في كل حي”. يحمل الغلاف الأول للكتاب صورة لمدينة فاس، مسقط رأس العربي بنجلون وصورة للمؤلف في شبابه، فيما يحمل الغلاف الأخير كلمة للناقدة لبنى جوهر من سوريا تقول فيها عن الكاتب، الذي عرفته قبل 35 سنة، “كنا، وما بدلنا تبديلا، نلتقي في فاس أو القاهرة أو برلين”، مضيفة قولها “ليس غريبا أن تأتي كتاباته قطعة من لحمه (…) يصر على مواقفه في غير بهرجة، ويحث الخطة في عالم الكتابة للكبار والصغار، وينشد العلم والمعرفة والأدب في كل مكان ينزل به”. نذكر أن العربي بنجلون، المزداد سنة 1948، أصدر أزيد من 59 كتابا للأطفال، والعديد من المؤلفات النقدية والإبداعية، وسبعة أعمال أدبية في التربية غير النظامية، اعتمدتها بلدان أوروبية ومنظمات عالمية في هذا المجال. والعربي بنجلون، الذي اشتغل معلما ثم أستاذا للغة العربية وحاضر في كليات الآداب ومعاهد الإعلام بالمغرب وخارجه، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو اتحاد الصحافيين العرب بهولندا، وعضو مؤسس لاتحاد ممثلي الصحافة الوطنية.
مشاركة :