التشابك بين التهريب والإرهاب والفساد سيجعل معركة الفساد أكثر تعقيدا، مع نجاح لوبي الفساد في امتلاك أدوات فعالة داخل الأحزاب السياسية وفي وسائل الإعلام، وداخل مؤسسات القضاء والأمن.العرب مختار الدبابي [نُشر في 2017/06/03، العدد: 10652، ص(8)] فتحت الانطلاقة القوية للحرب على الفساد في تونس أبواب التفاؤل، لدى النخب وفي الشارع، بأن البلاد بدأت بعد ست سنوات من فوضى النماذج والأفكار بتنفيذ أولى أهداف الثورة كأرضية ضرورية لبناء التنمية. لكن هذا التفاؤل بدأ يخبو بسرعة وتحيط به الشكوك في أن يمضي إلى آخر المنتهي في الحرب على الفساد. والمثير هنا أن حكومة يوسف الشاهد تريد أن تستمر بمعركتها ضد الحيتان الكبيرة التي تحوم الشبهات حول دورها في تخريب الاقتصاد وفتح أبواب تونس على الجريمة الوافدة من بوابة التهريب ولعبة ورقة الإرهاب، إلا أن المناخ السياسي والإعلامي يجدف باتجاه معاكس تماما. ومنذ الإعلان عن بدء الاعتقالات، بادرت حسابات للتواصل الاجتماعي ومواقع إخبارية وصحف بعضها عرف بالمهنية بنشر سيل من الاتهامات وحياكة قصص فساد عن العشرات من قضايا الفساد، وأحيانا بإطلاق اتهامات ضد شخصيات ومؤسسات وأحزاب بارزة. ويظهر لأول وهلة أن هذا الزخم يهدف إلى دعم جهد الحكومة وتسهيل الطريق أمامها في حربها على الفساد، لكن الحقيقة على الأرض تقول إن الذين فتحوا قنوات الفضائح والاتهامات كان هدفهم إغراق رئيس الحكومة في بحر من القضايا يستحيل معه عليه أن يفعل شيئا. وإذا أهمل تلك الاتهامات سيوصف بأنه يشتغل لفائدة جهة ويصفي الحساب مع خصومها، وإذا تحمس للتعاطي مع سيل التهم، فلن يقدر على مغادرة مكانه، وسيجد نفسه مطالبا، هو والجهات المتخصصة بالحرب على الفساد، بأن يقضي أشهرا في فتح الملفات والتثبت من مزاعم أصحابها. نجح أسلوب الإغراق في الأزمات بأن يظهر جهد الشاهد ووزرائه وكأنه نقطة في بحر من الفساد، وأن خطواته بطيئة ومرتبكة ولا تتماشى مع المهمة الشاقة التي تحتاج حكومة أقوى وفي وضع سياسي واقتصادي تكون فيه الدولة قوية. وما يزيد من تعقيد المهمة على الحكومة أن الإغراق بالملفات شمل فترة ما قبل احتجاجات 2011 وما بعدها، ما يزيد من تشتيت جهودها ويشل تفكيرها ويجبرها على التردد. ورغم أن متابعين ومحللين محليين يقولون إن سياسة الإغراق في الأزمات تصدر عن “جهة خفية” تتحكم بالملف الإعلامي والحزبي، فإن التحرك الأخطبوطي لمن قاموا على الحملة الإعلامية وتولوا نشر ملفات الفساد يظهر أنها ردة فعل تلقائية (بافلوفية) من منظومة الفساد ضد من يحاول أن يدخل إلى مجالها الحيوي. وبدل أن تفتح لوبيات الفساد حربا مباشرة مع الشاهد وتجبره على التفرغ للدفاع عن نفسه وتأجيل حربه على الفساد، فإنها لجأت إلى أسلوب أكثر دهاء حتى لا تظهر في مواجهة الدولة وخاصة مؤسسة الرئاسة. ومن المهم الإشارة إلى أن تلك اللوبيات سبق أن قطعت خطوات أخرى لتعويم الفساد بشكل يجعل التعاطي معه أمرا معقدا، خاصة أنها نجحت في أن تقنع التونسيين عبر حملات مركزة ودائمة بأن منظومة ما بعد الثورة فاسدة، وأن البلاد غارقة في الفساد الذي تحول إلى غول يصعب التغلب عليه، ومن ثمة فأي محاولة لدخول هذه المنطقة الغامضة ستجد أحكاما مسبقة لدى الناس بأنها محاولة عبثية، أو خطوة مضللة لتلهية الشارع عن أزمات أخرى. وهذا ما يفسر سهولة تبني الفكرة القائلة إن تحرك الشاهد الأخير كان الهدف منه التغطية على اعتصام تطاوين ومعركة تأميم البترول، والدفع لوقف الاحتجاجات الاجتماعية. لكن نقد أسلوب الإغراق في الأزمات لشل حركة الشاهد وحكومته، لا يعني نفي تمدد الفساد وكونه مشكلة معقدة خاصة في ضوء تشابك متين بينه وبين التهريب والإرهاب وفي ظل استمرار الملف الليبي دون حل. وما يثير في الاعتقالات الأخيرة أن بعض المتهمين البارزين تثار شكوك كبيرة حول استثمارهم في الإرهاب، وارتباطهم بأجندات خارجية عملت بدورها على الاستثمار في دعم الجماعات المتشددة لتحقيق نفوذ إقليمي. ويقول خبراء متخصصون في الجماعات الإسلامية المتشددة إن هذه الجماعات كانت سباقة، ومنذ الصراع بين الجيش والمتشددين في الجزائر (1990/ 2000)، إلى استثمار التهريب لتسهيل تنقلات قياداتها والحصول على الأسلحة وتمويل عملياتها، لافتين إلى أن المشرفين على شبكات التهريب عادة ما يكونون رجال أعمال أو قيادات أمنية تعمل لفائدة رجال أعمال، ما يعني أن رموز الفساد في بعض دول المنطقة قبلت بالتشبيك مع الجماعات الإرهابية لتحقيق مكاسب كبرى من بوابة التهريب. ولا شك أن التشابك بين التهريب والإرهاب والفساد سيجعل معركة الفساد أكثر تعقيدا، مع نجاح لوبي الفساد في امتلاك أدوات فعالة داخل الأحزاب السياسية وفي وسائل الإعلام، وداخل مؤسسات القضاء والأمن. لقد أظهرت برامج الحوارات في الفضائيات المحلية التونسية إلى العلن وجود اصطفافات إعلامية وسياسية حادة على قاعدة الولاء للوبيات الفساد، وبدا الأمر أكثر وضوحا في اتهامات يوجهها نواب للبرلمان إلى زملاء لهم من أحزاب مخالفة، ومن داخل أحزابهم، وهو ما تجسد في الاتهامات المتبادلة بين نواب الحزب الحاكم، بانتظار أن تخرج مؤسسة القضاء من وضعية الحياد البارد تجاه المعارك المصيرية، وأن تبادر إلى فتح ملفات عاجلة للتقصي حول مختلف التصريحات والتسريبات والتحقيقات الاستقصائية التي تطلق مواقع مجهولة الهوية. كاتب وصحفي من تونسمختار الدبابي
مشاركة :