يتوجه الفرنسيون مجددا إلى صناديق الاقتراع الأحد المقبل في الجولة الأولى من الانتخابات النيابية التي يؤمل منها أن توفر للرئيس إيمانويل ماكرون أكثرية مريحة في البرلمان تمكنه من وضع برنامجه ووعوده الانتخابية موضع التنفيذ. ورغم أن استطلاعات الرأي تتوقع أن يحصل حزب «الجمهورية إلى الأمام» (حزب ماركون) مع شريكه «الحزب الديمقراطي» الذي يرأسه وزير العدل فرنسوا بايرو، على الأغلبية، إلا أن التشويش لحق بحملة ماكرون بسبب اندلاع فضائح فساد عدة لطخت أحد أقرب المقربين إليه وهو ريشار فران، وزير التخطيط المحلي. وتحوم حول الأخير الذي لعب دورا رئيسيا في إيصال ماكرون إلى قصر الإليزيه شبهات المحسوبية وسوء استخدام السلطة في عملية عقارية تمت في عام 2011 عندما كان يرأس مجموعة من شركات التأمين العاملة غرب فرنسا. وبينت استطلاعات الرأي أن أكثرية من الفرنسيين (52 في المائة) ترغب في أن يتخلى ماكرون عن الوزير فران الذي يشغل في الوقت عينه منصب أمين عام حزب «الجمهورية إلى الأمام». وتنسحب هذه الأكثرية على مناصري ماكرون والمنتسبين إلى حزبه الجديد بسب بالخوف من أن تشوه فضائح فران صورة العهد الجديد ورغبته في إدخال الشفافية والمناقبية إلى العمل السياسي. حتى الآن، لا يبدو أن الرئيس ماكرون قد لحقت به الشظايا؛ ذلك أن أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «إيبسوس» لصالح جريدة «لو موند» ونشرت نتائجه أمس، يبين أن حزب ماكرون مع شريكه «الحزب الديمقراطي» سيحصلان على نحو 31 في المائة من الأصوات، وبذلك يتقدمان على الأحزاب المتنافسة كافة بفارق كبير. فالحزب الذي يأتي في المرتبة الثانية هو حزب «الجمهوريون» المتوقع له أن يحصل على 22 في المائة من الأصوات، وبذلك يكون قد استعاد بعضا من شعبيته التي بددها مرشحه الرئاسي فرنسوا فيون. وإذا صدقت هذه التوقعات، فإن «الجمهوريون» سيتقدم على حزب الجبهة الوطنية التي تراسها المرشحة الرئاسية مارين لوبان التي هزمها ماكرون في الجولة الانتخابية الثانية للوصول إلى قصر الإليزيه. ويبين الاستطلاع أن حزب لوبان قد ضمر كثيرا منذ الانتخابات الرئاسية وتراجعت شعبيته، حيث إنه لن يحصل إلا على 18 في المائة من الأصوات «مقابل 21.3 في المائة». كذلك، فإن تجمع «فرنسا المتمردة» الذي يقوده مرشح اليسار المتشدد الرئاسي جان لوك ميلونشون تهاوت هو الآخر مواقعه بنسبة 8 نقاط قياسا لما حصل عليه ميلونشون في الجولة الرئاسية الأولى «19.5 في المائة». ويرجع المراقبون الأسباب إلى مواقف ميلونشون المرتبكة بين الدورتين الرئاسيتين وامتناعه عن الدعوة الواضحة للاقتراع لصالح ماكرون. بيد أن اللطمة الكبرى ستصيب الحزب الاشتراكي الذي سيتزايد انهياره الانتخابي والنيابي. ولا بد من التذكير أن الحزب الاشتراكي حكم فرنسا مع الرئيس فرنسوا هولند طيلة خمس سنوات «2012 ــ 2017» وكان في فترة من الفترات متحكما بمفاصل الدولة كافة «التشريعية والتنفيذية والإدارية والمحلية». وإذا كان مرشحه الرئاسي بونوا هامون قد حصل على 9 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى، فإن مرشحي الحزب إلى الانتخابات التشريعية ستهبط نسبتهم إلى 8.5 في المائة. والخلاصة أنه مع انتهاء الجولة الثانية من الانتخابات يوم 18 يونيو (حزيران) الحالي، فإنه ستكون لماكرون أغلبية مريحة للغاية «ما بين 395 و425 مقعدا من أصل 577 مقعدا». وسيحصل «الجمهوريون» الذين كانوا يأملون من جانبهم في استعادة أكثرية نيابية فقدوها في عام 2012 على عدد من المقاعد يتراوح ما بين 95 و115، أي أنهم سيخسرون نصف عدد المقاعد التي كانت لهم في المجلس النيابي المنتهية ولايته. وبسبب النظام الانتخابي الأكثري من دورتين، فإن حزب مارين لوبان سيبقى هامشيا في الندوة البرلمانية المقبلة، لكنه سيرفع عدد نوابه من اثنين حاليا إلى ما بين 5 إلى 15 مقعدا. أما الحزب الاشتراكي الذي كان يتمتع بالأكثرية المطلقة فإن المتوقع له أن يحصل على 25 إلى 35 نائبا. وسيشهد البرلمان، للمرة الأولى، دخول ما بين 10 إلى 20 نائبا من اليسار المتشدد. إذا تحققت هذه النتائج، فإن الرئيس ماكرون سيكون طليق اليدين ولن يكون ملزما بالتفاوض مع الأحزاب الأخرى لتكوين أكثرية هشة بحسب المشروعات المطروحة للنقاش، إن بسبب القوانين المرتجاة. فضلا عن ذلك، فإن الكثير من النواب من اليمين واليسار الذين لا ينتمون لا إلى حزب «الجمهورية إلى الأمام» ولا إلى «الحزب الديمقراطي» أعلنوا سلفا أنهم سينضمون إلى الأكثرية الرئاسية، بل إن الكثير منهم ركز حملته الانتخابية على انتمائه المسبق لها. ولعل أفضل مثال على ذلك رئيس الوزراء الاشتراكي السابق مانويل فالس؛ إذ إن ملصقاته الانتخابية تحمل عبارة «الأكثرية الرئاسية». بعد انتهاء هذه الانتخابات، ستكون صورة فرنسا السياسية قد انقلبت رأسا على عقب. والمنتظر أن تشهد الفترة التي تليها تغيرات جذرية، وخصوصا انقسامات في الحزبين الرئيسيين اللذين تعاقبا على السلطة في فرنسا منذ إطلاق الجمهورية الخامسة قبل ستين عاما، وهما الحزب الاشتراكي وحزب اليمين التقليدي المسمى حاليا «الجمهوريون». ويتوقع المراقبون أن ينشق الحزب الاشتراكي إلى قسمين: جناحه اليساري الذي سيكون في المعارضة الراديكالية والمعتدل الذي سيحاول التقرب من العهد الجديد. كذلك يتوقع أن ينشق حزب «الجمهوريون» بين تيار براغماتي جاهز للتعامل مع ماكرون وآخر جذري معارض يمثل اليمين المتشدد الذي يمثله لوران فوكييز الساعي لترؤس الحزب بعد الانتخابات. ولن يوفر الزلزال السياسي اليمين المتطرف بعد الهزيمة في الانتخابات الرئاسية وفشل مارين لوبان في تجسيد صورة المرشحة المعتدلة والقادرة على فتح بوابة الإليزيه أمام الجبهة الوطنية. وهكذا يكون ماكرون قد حقق أكثر من هدف في وقت قياسي: الوصول إلى رئاسة الجمهورية والحصول على الأكثرية النيابية التي يحتاج إليها، لكن أيضا إحداث زلزال سياسي ناسف للتوازنات القديمة ووصول عهد يتخطى اليمين واليسار، ويدخل فرنسا في عالم جديد. وإذا أضيف إلى ذلك نجاحه في خطواته الدبلوماسية الأولى على المستوى الدولي، يكون ماكرون قد اجتاز بمهارة أولى الاختبارات وأرسى صورة رجل الدولة. لكن ما يحتاج إليه اليوم وسريعا أن «يقلع شوكة» الفضائح اللاحقة بالوزير ريشار فران قبل أن تطاله وتبدأ بتبديد رأسماله السياسي.
مشاركة :