محمد رُضاخروج فيلم «غريب: ميثاق» إلى صالات العرض قبل أيام قليلة واللهفة التي صاحبت المعجبين بسلسلة Alien منذ أن خرج الفيلم الأول منها سنة 1979، ليس سوى مناسبة للنظر إلى مخرج يعمل غالباً بصمت، وينجز أفلاماً في كل نوع واتجاه، ويتلقف بالمقابل آراء متفاوتة حول اختياراته من المواضيع، وأسلوب عمله كمخرج.إنه ريدلي سكوت، الذي إذا جلست معه تستطيع أن تضمن لنفسك حديثاً جاداً للغاية لا يتخلله أي ضحك أو مرح. هو هكذا. تسأله فيجيب ويجيب بإسهاب إذا أراد؛ لكنه لن يعمد إلى أي قدر للتخفيف من جديّته. أكثر من ذلك، سيسألك إذا ما شاهدت هذا العمل أو ذاك من أفلامه، وإذا وجد أنك لم تفعل قطب حاجبيه، ونظر إلى ساعته كما لو أنه تساءل حول السبب الذي من أجله جلست تسأله تلك الأسئلة، وأنت لم تر أعماله. ريدلي سكوت مخرج جيد كما تقر هوليوود دون تردد. صنع لها العديد من الأفلام المربحة، وقدم للنقاد عدداً لا بأس به من النوعية التي تنال إعجابهم. أما للجمهور فقد خصّهم بأكثر أعماله. في الواقع لم يحقق أي فيلم من أعماله ال26 دون أن يفكر في الجمهور. بذلك هو بالتأكيد ليس مخرج الفئة النوعية أو النخبة ولو أن ذلك لا يعني كونه مخرجاً يحقق أفلامه بخفة، لكي ترضي كل الأذواق.ولد في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1937 في بلدة ساوث شيلدز، شمال شرق لندن. بعد عامين على ولادته اندلعت الحرب العالمية الثانية، وافتقد والده الذي كان مجنداً في سرية الهندسة التابعة للجيش البريطاني. خلال الحرب وبعدها انتقلت عائلته في أكثر من مكان في الريف البريطاني حتى استقرت في بلدة اسمها هارتبيرن؛ حيث درس ريدلي علومه الابتدائية والثانوية قبل أن يختار التخصص في التصميم.في سنة 1958 تخرج في الكلية اللندنية التي درس فيها وبعد عشر سنوات قام بتأسيس شركة لتصوير الإعلانات السينمائية مع شقيقه توني. قال لي عندما قابلته قبل أربع سنوات: «كنت أعلم بأني وشقيقي سوف نتوجه إلى العمل السينمائي. المسألة كانت مجرد وقت».قبل أن ينتقل ريدلي للإخراج سنة 1977 حرص على النجاح كصاحب شركة إعلانات؛ لأن ذلك كان رصيداً بالغ الأهمية فخلال الفترة من 1968 إلى 1977 تحوّلت الشركة إلى إحدى أهم شركات تصوير الإعلانات وأكثرها ربحاً.مع هذه الخلفية في رصيده، استلم سكوت مقاليد إدارة فيلمه الأول «المتبارزان» مع كيث كارادين وهارفي كايتل: دراما في عصر ما قبل الأسلحة النارية حول رجلين يمتد العداء بينهما لعقود ويزداد شعور كل منهما بأن عليه قتل الآخر في مبارزة سيوف.الاستقبال كان جيداً؛ لكنه لم يكن مميزاً؛ وذلك منذ أن تم عرض الفيلم في مهرجان فينيسيا لأول مرّة. إلا أنه بعد عامين فقط، أشعل ريدلي سكوت ما يشبه النار بين رواد السينما ومحترفيها عندما أخرج فيلم «غريب» سنة 1979 محوّلاً سينما الخيال العلمي إلى ساحة صراع عنيف ومخيف بين بشر عالقين في الفضاء ووحش تسلل إلى سفينتهم.في الحقيقة، وقف «غريب» على الخط النحيف بين الرعب والعنف؛ وذلك المشهد الذي نرى فيه الوحش ينزلق سريعاً من شرنقته إلى وجه أحد الممثلين لم يسبقه مشهد مماثل في كل تاريخ سينما الخيال العلمي. بعد ذلك يفقد الممثل وعيه، والوحش يبدو كما لو انفصل عنه، لكن الواقع هو أن زرع نفسه داخل الشخص كما هي وسيلته في الفتك بالبشر.المرأة في أفلامه إثر ذلك تخلّى سكوت للمخرج جيمس كاميرون عن تحقيق الجزء الثاني من الفيلم وانصرف إلى أحد أفضل أفلامه إلى اليوم وهو «راكض النصل» (Blade Runner). هذا العمل هو أيضاً خيال علمي إلا أن أحداثه تدور على سطح هذا الكوكب: في المستقبل البعيد سيؤول لأحد أمهر التحريين أمر الكشف عن أشخاص من ذوي الملامح والتصرفات البشرية، لكنهم في الواقع هم آدميون مزيّفون وعليه قتلهم. هذا كله قبل أن يكتشف أنه بدوره ليس إنساناً. وما جعل هذا الفيلم أحد أفضل أعماله هو الأجواء الشاملة التي تتميّز بدقة الحركة والتفاصيل في كيفية إنجاز تشويق فعال.عبر هذين الفيلمين جذب ريدلي سكوت الاعتقاد بأنه سيكون من المخرجين الذين سيتعاملون غالباً مع أفلام الخيال العلمي. فالنجاح اللافت الذي حققه دفع إليه عشرات المشاريع التي من هذا النوع: «بالنسبة لي لا أقبل على نفسي أن أتخصص في نوع أكثر من سواه. لقد استلمت ستة عشر مشروعاً مختلفاً بعضها أفلام تدور أحداثها في الفضاء والأخرى على الأرض إلا أنها جميعاً خيالية مملوءة بحكايات المخلوقات الغريبة التي تريد الانقضاض علينا؛ لكني لم أكن مستعجلاً لأي منها والدرس الذي تعلمته أن عليّ أن أنتهج مشاريع أخرى مختلفة فهذا أضمن للنجاح».وهو فعل ذلك بالتحديد: بعد «راكض النصل» اتَّجَه صوب مغامرة تاريخية بعنوان «أسطورة» ثم التفت صوب فيلمين تشويقيين مختلفين هما «أحدهم لحراستها» و«مطر أسود»، والمفاجأة وردت في عام 1991 عندما أخرج ثاني فيلم جيد وجدير بالإعجاب الذي حققه بين فئات الجمهور المتعددة وهو «ثلما ولويس».السبب في أن الفيلم كان مفاجأة، يعود إلى أنه يدور حول المرأة من موقع المؤيد لحريتها واستقلالها تبعاً للظروف الصعبة التي تعيشها أحياناً في مجتمع ما زال ذكورياً. «ثلما ولويس» مثلته جينا ديفيز وسوزان ساراندون: زوجتان تتركان أزواجهما وتنطلقان في رحلة بعيدة للبحث عن الذات النسائية التي كادت أن تسقط بين أقدام المعاملة السيئة لزوجيهما.وسط الاحتفاء النقدي بهذا الفيلم خرجت الدعوات لاعتبار ريدلي سكوت «أفضل من قام بمعالجة موضوع نسائي» كما ذكرت «تايم ماجازين» آنذاك؛ لكن الحقيقة هي أن سكوت سبق له وأن عالج مواضيع نسائية من خلال اختياراته لنساء قويات في أفلامه.في «غريب» أساساً سلم القيادة للممثلة سيجورني ويفر فهي التي ستقوم بالتصدي للوحش الذي تسلل إلى المركبة وأخذ يزرع جيناته في الأجساد محولاً طاقم المركبة إلى أجساد تنجب وحوشاً أخرى. على الرغم من أن العمل بمنهجه التشويقي المرعب يغطي على الأبعاد الاجتماعية والفكرية التي يتناولها، إلا أن ذلك الدور النسائي يبرز ويسود. أعمال متميّزةبعد ذلك عاد إلى المرأة في أكثر من عمل؛ لكنه أيضاً لم يكن في وارده جعل النقاد يصنفونه كمخرج نسائي؛ لذلك نجد أن أفلامه ذات شخصيات قوية في البطولة بصرف النظر عن جنسها. هذه هي الحال في «جلاديايتر» و«مملكة السماء» و«كيان من الأكاذيب» و«روبن هود» و«المريخي». على ذلك قال معلقاً:«شخصياً لا أميل لشخصيات منتصف الطريق. لا أحب تلك الرمادية. أعتقد أنني من جيل لم يجد أي داع لإرباك المشاهدين بتقديم أبطال يخالجهم الشر وأشرار يخالجهم قدر من الخير. الأمور عندي ليست على هذا النحو.على الرغم من محاولة ريدلي سكوت المستميتة الابتعاد عن التصنيف المعلّب قدر الإمكان، فإن إنجازه لأفلام يتصدرها أبطال واضحون في قراراتهم ولديهم القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة، سواء أكانوا رجالاً أم نِساء، هو نوع من التصنيف وجزء من ملامح مهمّة باتت أفلام سكوت نماذج لها.على سبيل المثال، هناك العمل الدائم مع نجوم معروفين يختارهم المخرج بحكمة وثقة: توم كروز في «الأسطورة»، سيجورني ويفر في «غريب»، سوزان ساراندون في «ثلما ولويس» ثم راسل كراو في «جلاديايتور» وجوش هارتنت وإيوان مكروجر وتوم سايزمور في «بلاك هوك داون» وليوناردو دي كابريو في «كيان الأكاذيب» وهاريسون فورد في «راكض النصل» وتشارليز ثيرون في «برومثيوس» (جزء رابع من سلسلة «غريب») ومات دامون في «المريخي».خصوصية أخرى في اختياراته من الأفلام هي أنه لا ينصاع للسائد أو التقليدي. نعم أفلامه في نهاية المطاف تنتمي إلى أصناف وأنواع، إلا أنه لا شيء منها يشبه شيئاً آخر حققه هو أو حققته هوليوود مع مخرجين آخرين. حتى عودته إلى سلسلة «غريب» وإسناده البطولة إلى امرأة مرّة ثانية (كاثرين ووترستون) تختلف عن الجزء الأول من السلسلة على أكثر من نحو.في نهاية جلستنا الأخيرة قبل أربع سنوات (الثالثة منذ 1986) عندما كان ينجز فيلم «المستشار» مع مايكل فاسبيندر وبينيلوبي كروز، سألته إذا ما كان يستطيع توجيه نصيحة لمخرجي اليوم. فكّر قليلاً ثم أجاب:«نعم حتى ولو لم تكن تعرف كيف ستنجز الفيلم، كن من الذين يدعون أنهم يعرفون كل شيء وضع خطة تقتضي بأن تعرف كل شيء. تعلم وأنت تحضر نفسك للعمل؛ ذلك سيمنحك ثقة كبيرة. ثم لا تنسى أن تتوارى من الفيلم. تذكر أن العمل لا يدور حولك؛ بل أنت لست سوى الوسيلة المتاحة لتقديم الفيلم إلى الجمهور».
مشاركة :