صعوبة محاربة العملات المشفرة تكمن في استحالة منع أشخاص أو مؤسسات من مقايضة ما يملكون، حتى لو تم استخدام أقسى إجراءات القمع في التاريخ.العرب سلام سرحان [نُشر في 2017/06/05، العدد: 10654، ص(12)] فتح الهجوم الإلكتروني الواسع النطاق في الشهر الماضي جبهات كثيرة أمام حكومات العالم للتعامل مع قضايا لم تعد تحتمل التأجيل. فمطالبة القراصنة بالحصول على أموال بعملة بيتكوين تفتح أبوابا واسعة لعمليات الإرهاب الإلكتروني والقرصنة والابتزاز، لأن العملات المشفرة لا تمكن مراقبتها من قبل السلطات المالية التنظيمية. هذه الأبواب اتضحت خطورتها أكثر بعد أيام على الهجوم الإلكتروني، الذي طال مؤسسات في أكثر من 100 دولة، حين أعلن قراصنة كومبيوتر أنهم دخلوا كومبيوترات شركة ديزني وانتزعوا الفيلم الجديد في سلسلة أفلام “قراصنة الكاريبي”. وهددوا بإتاحة الفيلم على الإنترنت إذا لم يحصلوا فدية كبيرة بعملة بيتكوين، وهو ما يمكن أن يكبد ديزني خسائر كبيرة جدا. مخاطر العملات المشفرة لا تقتصر على خطر انتشار أعمال الابتزاز والقرصنة وهي تفتح جبهة عالمية مسكوتا عنها لتحديد مستقبل العملات المشفرة التي تهدد النظام المصرفي العالمي ونفوذ المصارف المركزية. فهذه العملات الخارجة عن جميع وصايات السلطات المالية، تقدر قيمتها حاليا بنحو 60 مليار دولار، وقد تضاعفت قيمتها 6 مرات عن المستويات التي كانت عليها قبل عام. خطورة التهديد أن هذه العملات لا يمكن رصدها وهي لا تخضع لأي قوانين أو رسوم أو ضرائب عند تداولها وهو ما يمكن أن يقوض سيادة الدول على الأنظمة المالية. يوجد اليوم عشرات العملات في التداول، لكن عملة بيتكوين هي الرئيسية وتستأثر بنحو 60 بالمئة من القيمة الاجمالية للعملات الإلكترونية المشفرة في العالم. لكن هناك أيضا مئات العملات الأخرى في مراحل متباينة من الإصدار والانتشار. وبالتأكيد فإن الكثير منها لا يستند إلى أسس راسخة وقد تكون مرتبطة بعمليات احتيال ونشاطات إجرامية. قيمة العملات المشفرة لا يزال ضئيلا جدا مقارنة بمئات تريليونات الدولارات المتداولة في النظام المالي العالمي، لكن تزايد عددها وانفجار أعداد الأفراد والشركات التي تقبلها يمكن أن يقلبا المعادلة على المدى البعيد. قد يخيل للبعض أن جميع الحكومات تعارض وتحارب تلك العملات وأن توحيد جهودها يمكن أن يقوض مصداقية تلك العملات. لكن ذلك الاعتقاد لا أساس له في الواقع. غزو العملات المشفرة ليس مجرد عملية مؤقتة يمكن أن تنحسر في المستقل. فهي تستند إلى قواعد ومرجعيات للإصدار، وهي تتقدم بثبات رغم أنها تحتاج إلى دراية عالية لمعرفة مدى مصداقية كل منها. جميع العملات في العالم يستند إلى عدد الجمهور الذي يعترف بها ويستخدمها. ولهذا فإن ارتفاع مستخدمي العملات المشفرة يعد بزيادة قيمتها وانتشارها، خاصة أنها خارج نطاق الرسوم والضرائب والوسطاء. صعوبة محاربة العملات المشفرة تكمن في استحالة منع أشخاص أو مؤسسات من مقايضة ما يملكون في ما بينهم دون وسيط، حتى لو تم استخدام أقسى إجراءات القمع في تاريخ العالم. ولو اتحدت جميع الحكومات في جبهة واحدة وأعلنت حربا عالمية ضد العملات المشفرة فإنها لن تستطيع القضاء عليها. وقد بدأت تدرك ذلك وتستعد للدخول في لعبتها لتقليل الخسائر ما دام الانتصار عليها مستحيلا. اليابان هي الوحيدة التي بدأت بترويض العملات المشفرة في النظام المالي الرسمي وقد أصبحت أكثر دول العالم استخداما لها. وقد لوحت روسيا مؤخرا بأنها يمكن أن تدخل العملات الإلكترونية المشفرة في التداول، لأنها يمكن أن تخفف وطأة العقوبات عليها. بل إن استخدامها بدأ يتسع في الدول التي تفرض قيودا كبيرة عليها مثل الصين، لأنها تساعد في التغلب على القيود الحكومية وخاصة تهريب الأموال إلى الخارج. ويبدو أن مصالح المصارف في العالمية الكبرى يمكن أن تلتقي مع انتشار العملات المشفرة لأنها تخترق حدود الأنظمة المالية وتسهل التعاملات التجارية عن طريق كسر العقبات التي تقف أمام التسويات المالية. وقد أعلن عدد كبير من المصارف والمؤسسات المالية الكبرى منذ العام الماضي عن خطط لاعتماد العملات الإلكترونية المشفرة اعتبارا من عام 2018. مستقبل العملات الرقمية يمكن أن يفتح آفاقا لا حصر لها بمجرد تحديد آلية إصدار محكمة تحظى بقبول وثقة جمهور واسع من المستخدمين، لأنها توفر حرية لا تعرف الحدود والرسوم والضرائب ولا يمكن اكتشـافها من قبل السلطات المالية. ومن المتوقع إصدار عملات تستند إلى قواعد لا تخطر ببال أحد، مثل إعلان شركة آر.فينتك البريطانية بداية الشهر الجاري عن إصدار عملة تستند إلى حسابات رقمية مرتبطة بأصول قطاع النفط العالمي. لم تعد قضية العملات المشفرة مقتصرة على أقلية في الهامش، فعدد الشركات التي تقبل الدفع بها في تـزايد مستمر، وهي يمكـن أن تسمح لها بالتهرب من الضرائب، الأمر الذي يهدد استقرار الدول وخاصة المتقدمة. ولا بد أن الدوائر السياسية والأمنية مشغولة حاليا بالبحث عن سبل لترويض الآفاق العاصفة والتحديات الشاقة التي يطرحها انتشار استخدام العملات الإلكترونية المشفرة، التي تهدد بانهيار النظام المالي والأمني في العالم. السلطة المالية للدول هي مفتاح بقائها وهي التي تمول الموازنات والخدمات وجميع المصاريف الحكومية. والسؤال الذي أصبح ساخنا اليوم هو: ماذا لو تضاعف انتشار تلك العملات لمئات أو آلاف المرات؟ كيف ستمارس الحكومات مهامها إذا فقدت جانبا كبيرا من مساحة سيادتها المالية؟ كاتب عراقيسلام سرحان
مشاركة :