محمد حنفي | منذ سقوط جدار برلين وقيام ما سمي بثورات الربيع في الدول التي كانت خاضعة للنفوذ السوفيتي، سابقا، ظهر عالم أحادي القطب، وبدا أن الديموقراطية الليبرالية انتصرت، وحلت فكرة العولمة بوعود التعايش وفق نظام منفتح موحد المعايير. بيد أنه ما لبثت ظاهرة صراع الهويات أن انفجرت في أوروبا نفسها. وفي عالمنا العربي برزت النعرات الطائفية وبمحاذاتها صراع الإسلام السياسي مع الدولة الحديثة. زادت حدة هذا الصراع إلى درجة تمزيق الدولة أشلاء، وتهديد السلم الاجتماعي واضطهاد الأقليات بصورة غير مسبوقة أفضت إلى موجات من الهجرات، ومن تفريغ المجتمعات من تنوعها، أو تحويل هذا التنوع نفسه إلى عصبيات منغلقة، لكنها قابلة للاشتعال والتفجر. فشلت ثورات الربيع العربي في إحلال صيغ ديموقراطية متطورة تسهم في ترسيخ دولة المواطنة ما يعود في قسم منه إلى دور الإسلام السياسي في تحويل مسارها. والقبس تفتح هذه الملفات الشائكة بمساهمة عدد من المفكرين يشتركون في تحليل الوضع القائم ووضع صيغة للتعايش والسلم الأهلي وتدعيم مفهوم عقلاني للدولة. يرى استاذ الفلسفة في جامعة الكويت د. الزواوي بغورة أننا نعيش في عصر تسييس مفرط للإسلام، حيث يتم استخدامه سياسيا وإيديولوجياً من قبل جماعات الإسلام السياسي، ولا يتوقف بغورة عند مواطن الداء الذي ضرب المنطقة، وإنما يقدم لنا خريطة طريق للخروج من المأزق الحالي. خريطة بغورة تعتمد على قراءة مشروع التنوير الغربي وامتداداته في الثقافة العربية المعاصرة، كما يعتبر أن تجديد الخطاب بات مسألة حياة أو موت. ◗ يبدو ان المنطقة العربية بحاجة إلى مشروع تنويري طال انتظاره، وانت أشرت في مقال لك عن التنوير إلى أنه «إذا كانت الثقافة العربية في حاجة إلى دراسة ماضيها وتراثها وتاريخها، فهي في أشدّ الحاجة إلى دراسة التنوير الغربي ومختلف التجارب الحضارية الناتجة عن التنوير»، فماذا يعني التنوير؟ – في تقديري، يشير التنوير،على الأقل،إلى معنيين أساسيين: المعنى الأول وهو تعيين مرحلة في التاريخ الغربي هي مرحلة القرن الثامن عشر، وبلدان محددة في أوروبا هي انكلترا وفرنسا وألمانيا، والتي عرفت حركة تجديد شاملة مقارنة بعصر النهضة والإصلاح الديني والنزعة الإنسانية في القرن السادس عشر. ويتمثل هذا التجديد في أربعة ميادين أساسية هي: العلم الطبيعي كما صاغه نيوتن، والسياسة في شكل نظرية العقد الاجتماعي، والإصلاح الديني المتمثل في البروتستانتية، والفلسفة ممثلة بالفلسفة النقدية التي أسسها ايمانويل كانط. وإذا كان هذا المعنى الأولي يتميز بطابعه المحلي أو الخاص، فإن القيم التي حملها هي التي تشكل المعنى الثاني، وتمثل هذه القيم في الاحتكام الى العقل والعلم، والنظرة الكونية للإنسان، والإيمان بالتقدم الإنساني، وقبل هذا كله القول بالحرية ومن ثمة الاقرار بقيمة النقد، ولقد اصطلح على عصر التنوير بمصطلحات عديدة، ومنها عصر النقد، ونقد الدين بشكل خاص، والحق فإننا في حاجة ماسة لتوضيح هذا الجانب، وذلك لصلته بثقافتنا العربية سواء عند أنصار التنوير الذين يصورون التنوير على أنه مناهض للدين، أو عند خصوم التنوير الذين يعادونه للسبب نفسه. ولو فحصنا موقف التنوير من الدين، لوجدنا أن هنالك أكثر من تيار وموقف، فهنالك من دون شك تيار مادي يمثله في فرنسا بشكل خاص فلاسفة مثل دالمبير، ولكن هنالك تيار عقلي قال به نيوتن، يرى أن الله لا سبيل إلى معرفته إلا بالمناهج العقلية، ولقد وظف هذا التصور مثقفون ومفكرون، ومن هؤلاء فولتير وروسو في نقدهما للمسيحية الكاثوليكية، وبخاصة في موضوع التعصب، كما استخدم هذا التصور الديني في نقد سلطة الكنيسة. ولقد كان نقد الدين، أو تحديدا نقد التصورات الدينية، متبوعا دائما بالدعوة إلى التسامح، هذا ما نقرأه عند مختلف فلاسفة التنوير وكتابه بدءا بجون لوك صاحب كتاب «رسالة في التسامح»، وانتهاء بفولتير، من هنا نستطيع القول ان قيم عصر التنوير قد أعلت من قيمة الإنسان وعملت على الاقرار باستقلاليته الذاتية، ورفض فكرة الوصاية بجميع أشكالها، سواء كانت وصاية سياسية أو دينية أو ثقافية، وهو ما أشارت إليه عبارة الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط عندما عرف التنوير بخروج الإنسان من حالة القصور، وبلوغه مرحلة الرشد.البحث أولاً ◗ وهل دراسة التنوير ممكنة في الوقت الراهن؟ – نحن بالفعل في حاجة إلى دراسات تاريخية وفكرية دقيقة حول هذه المرحلة، نعم هنالك بعض الدراسات العامة المترجمة والمؤلفة، ولكن بالنظر إلى تعقد هذه الظاهرة، فإننا في حاجة الى تعميق البحث فيها، وذلك بحكم أنها لا تزال تقود الحضارة المعاصرة، ولأنها تعرف التحول والتغير والانتشار والنقد سواء في الغرب أو في غيره من المناطق التي تمكنت من تحقيق قيم التنوير. وفي تقديري، فإن بعض المراكز الثقافية والعلمية المنتشرة في بعض بلداننا العربية، يمكنها أن تقوم بهذه المهمة التأسيسية، وأن تنشئ فرق بحث في هذا الموضوع، سواء من جهة البحث في فكرة التنوير الغربي أو في امتداداته في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة.الأنا والآخر ◗ يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن علاقة المسلم بالآخر وخاصة المختلف دينيا. ما الذي أوصل هذه العلاقة إلى درجة من العداء حتى بات الإسلام يصور في بعض الأدبيات الغربية وكأنه دين يعادي الحضارة، ما الذي أوصلنا إلى نقطة الصدام؟ – كل علاقة بين الأنا والآخر تحكمها عوامل كثيرة، أهمها في نظري نوع الرؤية أو النظرة التي نشكلها حول الآخر، وعلاقة المسلم بالآخر لها تاريخها المرتبط بالشريعة التي حددت الآخر في «أهل الكتاب» و«أهل الذمة» و«الكافر»، وعليه، فإن ثمة نظرة نحو الآخر قد سادت في مرحلة من مراحل الحضارة الاسلامية، وما حمله العصر الحديث من نهضة أو تجديد، قد فرض إدخال بعض التعديلات على هذه الرؤية، وهو ما حاولت الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين انجازه. ولكن بالنظر الى واقعة الاستعمار والاحتلال، فإن تلك التعديلات المحدودة التي باشرتها الحركة الإصلاحية، قد انتكست وحلت محلها الصورة التقابلية العدائية التي ميزت الإسلام السياسي في عمومها، والحركات (الجهادية) على وجه التحديد والتي عملت على إحياء تلك الرؤية القديمة بطريقتها الخاصة، والقائمة على التقابل بين دار الإسلام ودار الكفر. واليوم، نرى أن هذه الرؤية هي التي تحكم الحركات (الجهادية) التي هي في الحقيقة حركات إرهابية والتي أفضل تسميتها بالحركات العدمية الدينية الجديدة. وفي تقديري، فإننا لا نستطيع الخروج من هذه الرؤية الصدامية ما لم نقم بنقد محدودية الأفكار التي تقدمت بها الحركة الاصلاحية، والعمل على تأسيس قيم المواطنة والمساواة والعدل والحرية ثقافتنا المعاصرة.الإصلاح والتسامح ◗ في دراسة لك عن الإسلام والتسامح من وجهة نظر بن باديس، خلصت إلى أن قيمة التسامح بما تحمله من قبول للآخر المختلف دينيا تحتاج الى إرادة فردية وسياسية في الوقت نفسه، في وسط كل صيحات التطرف والعنف كيف يمكن صناعة المجتمع المتسامح؟ – حقا لقد حاولت الحركة الإصلاحية تأسيس قيم جديدة تتفق وروح الإسلام والعصر في الوقت نفسه، وذلك بحكم دعوتها إلى الاجتهاد، وإقرارها بأن الفارق الحضاري بين عالم الاسلام والعالم الغربي إنما يتمثل في الحضارة وما حققه الغرب من تقدم، لذا راهنت على فكرة التقدم من خلال التربية والتعليم والإقبال على العلوم، وميزت بشكل واضح في الحضارة الغربية بين الاستعمار وبين القيم الإنسانية والعلمية، ومنها على وجه التحديد قيمة التسامح. ولو رجعنا إلى الشيخ عبدالحميد بن باديس، فإننا سنرى بأنه قد كرس دراسة لهذه القيمة بعنوان واضح وصريح وهو: التسامح الإسلامي، نظر المسلمين إلى غير المسلمين ونظر غيرهم إليهم، وقدم مجموعة من الحجج التي أرى أنها لا تزال صالحة، وتشكل قاعدة للتسامح الإسلامي، ومنها: إقرار الإسلام بالاختلاف بين الأمم، واعتبار الاختلاف قيمة ايجابية بما أنه من مشيئة الله أو من (الحكمة الإلهية). والدليل على ذلك مجموعة من الآيات منها «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، ويقوم هذا التسامح على تصور جديد للإسلام، أساسه التمييز بين الإسلام الوراثي التقليدي، والإسلام الذاتي الحر القائم على العلم والنظرة العقلية. وفي تقديري، فإن هذه المبادئ، تحتاج الى تعميق وتأسيس تسمح لنا باقامة المجتمع المتسامح الذي يقر ويعترف بالاختلاف، سواء داخل المجتمع الاسلامي أو خارجه، وترعاه الدولة المدنية التي تصون حقوق المواطنين، وبخاصة الحق في الحرية، وحرية الضمير والتعبير.إسلام بلا مذاهب ◗ منذ القرن الرابع الهجري وحتى الآن يرفع كثير من علماء الدين المتبصرين لواء الدعوة إلى إسلام بلا فرق أو مذاهب، بينما دعا آخرون إلا التقريب بين المذاهب الإسلامية، هل هذه الدعوة ممكنة في عصرنا الحالي؟ – الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الفقهية الاسلامية دعوة قديمة وقائمة في الآن نفسه، ولكن إمكانية تحققها من عدمه، تطرح في تقديري مسألة أخرى أشد صعوبة وتعقيدا، ألا وهي مسألة علاقة الدين بالدولة و المجتمع. لماذا؟ لأننا نعلم جميعا ان الإسلام في العصر الحديث قد أصبح في جزء منه على الأقل، شأنا من شؤون الدولة تقوم على رعايته وتسييره وتدبيره، وفي الوقت نفسه توظيفه. فلا يخفى على أحد أن الدولة، ممثلة بوزارة الاوقاف والشؤون الدينية، تضع السياسات العامة للدين، وهو ما يظهر جليا في خطبة الجمعة، أي أن هنالك توظيفا قليلا أو كثيرا للدين من قبل الدولة، ومن جهة أخرى هنالك القوى الاجتماعية والسياسية التي تتخذ من الدين وسيلة للمعارضة، وهو ما يمثله الإسلام السياسي بمختلف أشكاله، والذي يستعمل الدين لاغراض حزبية وسياسية صريحة، وهنالك من جهة ثالثة العلاقة التي تحكم بين بلداننا والبلدان المتقدمة، وبخاصة الغربية، التي لها مصالحها وتستغل واقع الاختلاف المذهبي، والصراع على الرأسمال الرمزي المتمثل في الدين من أجل تحقيق أهدافها. ما أريد قوله هو ان هنالك توظيفا سياسيا وإيديولوجيا للإسلام يظهر في شكلين عامين، يتمثل الشكل الأول في علاقة النظم السياسية العربية والإسلامية المعاصرة بالدين الإسلامي، ويعكس الشكل الثاني علاقة الحركات الإسلامية المختلفة بدين الإسلام الذي حولته إلى سياسة كاملة وما يقتضي ذلك من ذرائعية أو نفعية، بحيث تحول دين الإسلام إلى منطق للحساب السياسي الذي استبعد جانبه الروحي والرمزي، وذلك بالنظر إلى التسييس المفرط لدين الاسلام (الفتاوى مثال صريح على ذلك)، وكذلك عملية إعادة أسلمة المجتمعات المسلمة، بحكم أن بعض اتجاهات هذا الإسلام السياسي اعتبرت المجتمعات الإسلامية المعاصرة، مجتمعات «جاهلية» يجب أسلمتها من جديد.منطق عدميّ وقد اتخذت هذه الأسلمة مظاهر عديدة تبدأ من اللباس والكلام ولاتنتهي عند حد معين، بحيث أصبحت تشكل نوعا من الحركة الشمولية المطلقة التي تحاول إعادة تشكيل الفرد المسلم في كل كبيرة وصغيرة، وفي كل حركاته وسكناته، مستخدمة العنف الرمزي والمادي بجميع أنواعه، لتنتهي بأفعال إرهابية لم تشهدها البشرية، بحيث فرضت بمنطقها العدمي حالة استثنائية لم تعرفها المجتمعات الإسلامية والعالمية على حد سواء. ولقد استغلت القوى الأجنبية حالة التسييس المفرط لدين الإسلام، لتفرض بطرق مختلفة سياساتها على الدول الإسلامية. إن هذه الحالة، حالة التسييس المفرط لدين الاسلام، وغياب المكانة المحددة للاسلام بما هو قيمة مشتركة عند الجميع، هو ما يجعل من عملية التقريب المذهبي عملية صعبة للغاية، لذا أرى أن أفضل السياسيات في هذا الشأن هو الاقرار بواقع الاختلاف، وبحق كل مذهب في التعبير عن قيمه مع احترام للمذاهب الأخرى، والعمل على إيجاد مؤسسة تتكون من علماء الدين المختصين والمتمكنين، وتتمتع بقدر من الاستقلالية والصدقية تجاه النظام السياسي والمجتمع على حد سواء، وهو ما سبق للحركات الاصلاحية أن دعت إليه سابقا. السلام لا الحرب ◗ تجديد الخطاب الديني نداء يتزايد أنصاره في أدبيات السياسة والفكر هذه الأيام، فهل نحن في حاجة إلى تجديد هذا الخطاب؟ ومن أين يبدأ هذا التجديد؟ – تصعب الاجابة عن هذا السؤال المركب بشكل مختصر، ومع ذلك يمكنني القول إجمالا، إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني أصبحت أمرا ضروريا، إن لم يكن أمر حياة أو موت، وذلك بحكم ما نعرفه من أهوال. وفي تقديري، فإن التجديد يبدأ من تغيير رؤيتنا للعالم، هذا أولا. وثانيا، بنقدنا لبعض مسلمات الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر. وهنالك محاولات فكرية جادة، تعمل من أجل احلال المعرفة محل الجهل، والنور محل الظلمة، والسلام محل الحرب. ومن هذه المحاولات محاولة عبدالمجيد الشرفي، ورضوان السيد، وعبدالكريم سروش، وغيرهم، ممن يؤمنون بالرسالة الحضارية للإسلام.
مشاركة :