تاريخُ مكةَ الخلّاق في نَبْشِ "ذاكرة الرواق"

  • 6/4/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تاريخُ مكةَ الخلّاق في نَبْشِ ذاكرة الرواق أ. حسن محمد شعيب إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل دخل علينا قاعة الدرس يتأبط كتاب الجرجاني قبل عقدين من الزمن و نحن معلمي اللغة المستجدين وقتها ولم يفصلنا عنه بالعمر الكثير من السنين ؛ فلمّا نطقَ وأبحرَ في علوم اللغة وأسرار بلاغتها ؛ أيقنَّا بأنّ الفاصلَ بيننا حِقَباً من الثقافة والفكر وأننا أمامَ قارئ ثاقبٍ وناقدٍ يزِنُ الكلامَ ويسْحرُ الأفهام . ثم شاءَ الحَقُّ لقاءً بعد تلك السنين في عام ألفٍ وأربعمئةٍ وثلاثين بمعرضِ الكتاب للناشرين السعوديين بجُدّة يومَ أنْ كانَتْ تُقامُ بها معارض الكتاب بلا لَوْمٍ ولا عِتَاب ! وكان قد دَشّنَ فيهِ كتابَهُ المكّي العَريق ذاكرة الرّواق وحلم المطبعة فنبشْتُ ذاكرتَه بصِلاتٍ ماضية واتصالاتٍ كانتْ بيننا سنينَ رئَاسَتِهِ تحريرَ مجلة الحج والعمرة التي كانت لها النّقْلة على يديْه ولم يدُم نفسُها طويلاً بعدَه ! فكتبَ بخَطّهِ النّسْخِي الخَجُول إهداءَ الكِتاب ، واستأنفَتْ من لحظتِها العَلاقةُ من بوّابةِ مكةَ التي لطالما جمعَتْنِي بهِ لاحِقاً وسابقاً خاصّةً في حضوره ومشاركاته القيّمة بمحاضراتِ ندوة الحج الكبرى في احتفاليتها لثلاث سنوات متتالية بمكةَ عاصمةً للثقافة الإسلامية كانتْ دُرّة النَّدَوَات . كتبتُ عن ذاكَ التأريخِ الخلاق لمكةَ في ذاكرة الرّواق سابقاً ولعلّي أنبشُهُ مرةً أخرى هنا تأكيداً على ما فيه من دُرَرٍ لم تأخذْ حقّها من البَرِيق في أعيُنِ المُثقفين والمفكرين والمهتمّين بالشأنِ المَكّي الذي لا يَزالُ يُراوِحُ مَكَانَهُ احتِفَاءً ومَكَانةً بنتاجِ الأفذاذ من أبنائِهِ ومُحِبّيه ! لقد أكّد المؤرّخ الثقافي السيّد حسين بن محمد بافقيه منذ الوَمْضَةِ الأولى في ذاكِرَتِه على مكةَ الثقافةِ والفِكرِ ، تلك الخصوصيّة الرّحْبَة التي باتَتْ تُجرّدُ منها مكة بقَصْدٍ أو بدُون قَصْد في حَصْرِهَا بمركزِيّتِها الدينيّة فقط واختِزَالِ ما تبقّى مِنْ ثَقَافتِها في الحِرَفِ البَائِدَة وتُرَاثِهَا المَحْسُوس في الأطعمة والأشْربة والألبِسَة فيما تُمثّلُ به من مَهْرجَاناتٍ داخليّة وخارجيّة للأسفِ الشّديد ، أما مكةُ العلم والعلماء والثقافة والمثقفون فباتتْ مُغيّبةً مَسْلُوبًةً ! ولا يلبَثُ أن ينطلقَ بنا صاحبُ الذّاكرة في رحلة كتابهِ الطويلةِ المُمتعة - مستغْرِقاً ثلاثة قرون تقريباً - مع أصول الثقافة الحديثة في مكة المكرمة تحديداً من العام 1101-1384هـ / 1689-1964م ، ويكفي إلقاءُ نظرةٍ سريعةٍ إلى محتوياتِ الكتابِ لنَجد ذلك الزّخَم حولَ الثقافة المكيّة التي غَطّاها بافقيه بلغةٍ علميةٍ قويّةِ الأسلوبِ دَقيقةِ التّعبير ؛ لتكشِفَ عن صاحبِها اللُّغَويّ الأديبِ النّاقدِ ، وإذا تبحّرنا بالكتابِ أكثرَ فأكثرَ شمَمْنا ذلكَ العَبَق المَكيّ الذي يتنفّسُهُ كُلُّ حَرْفٍ خَطّهُ المُؤلّفُ دون تعَصّبٍ أو انْحِيَازٍ تفْرِضُهُ المَنْهَجِيّةُ الموضُوعيّة التي التزمَها بافقيه طيلةَ خُطُواتِ الكِتَابَةِ ؛ حيثُ احتوى ثقافةَ مكةَ برُمُوزِها وفُنونِها تحتَ عَبَاءَتِهِ في حُنُوٍّ وأُلفَةٍ لم تخلُ من بعض التأنيبِ على ما اعْتَوَرَها من شَزَر الوَهنِ في مَسِيرتها الطويلة . وإنها لتسحرُكَ عناوينُ مباحِثِ تلك الذّاكرة المًضَمّخَة بالمِسْكِ المَكّي أمثالَ : مكة هِبَةُ الدِّين ، ثقافة الشُّروح والحَوَاشي ، من المخطوط إلى المطبوع ، مرمَى حَجَر من الثقافة الحديثة ، الوَلَع بالصّحَافة ، الدُّسْتُور العُثماني ومولدُ الحِجَاز الحديث ، الحسين بن علي زمن الثّوْرة وزمن الثقافة ، مكة الأخرى ، الصحافة وبداءة النّهضة ، وإذا الثقافة سُئلتْ ، مدينة الفقهاء مَشْيَخَة العلماء ، من المَعَاش إلى الرِّيَاش ، سماء الشِّعْر في مكة ، وَأدُ الثقافة القديمة ، خواطِر مُصَرّحَة ، قَو}س الحَدَاثة ، وَحْيُ الصّحْراء ، مِرْصَاد الفلالي ، رسالة مكة المكرمة : التاريخ ، اللغة ، الأدب . تلكَ الذّاكرةُ تُعدّ موسوعةً في مَصَادِر الثقافة المكيّة بما اشتملتْهُ من مراجع ومصادرَ نادرةً اقتَطَفَ وانتقى منها بافقيه باحترافيّة وذائِقَةٍ رَائعة ؛ تكشفُ للمتتبّع مراحلَ تطوّرِ هذه الثقافة ، خاصّةً وقد امتلأتْ بالصّوَرِ والنُّصُوص النثريّة والشعريّة التي يَنْدُرُ جداً الرُّجُوعُ إليها في مصادرها المكيّة التي حُبِسَتْ في غَيَاهِبِ المَخْطُوطات والكُتُب القابِعَةِ في ظُلُماتِ المكتبات القديمة . وتعتبر آخرُ مِئَةِ صفحة من الكتاب من أهمّ وأروَعِ ما كُتِبَ عن الأدبِ الحِجَازي الذي شكّلَ النّهْضَةَ الأدبيّةَ الحديثةَ في البِلاد ، وهي جديرةٌ بأن تُدَرّسَ وتُقَرّر في مناهج الأدب السعودي بالتعليم العام والعالي أيضاً . وحقاً ما أغمضَ بهِ بافقيه ذاكرته على لِسَانِ مكةَ المكرمة حينَ قال :وكأنّ الرّسالةَ التي تُريدُ أمُّ القرى إبلاغَها إلى الجميع أنّها خُلاصَةُ المَشْهَد الأدبي الذي شَهِدَتْهُ العُقُودُ الأولى من نُهُوضِ المملكة العربية السعودية وقد سجّلَ أيضاً في آخِرِ ثمانيةَ عَشَرَ سَطْراً من كِتَابهِ تلكَ الرّسالة التي رَسَمَها بحِبْرِ العَبَراتِ على ما مَضَى وما يُؤَمِّلُ حاضِراً ومُستقبلا لتكونَ آخرَ عِبَاراتِهِ فيها : وها هيَ ذي في حاضِرِها تقفُ على أطْلالِ ذلك الماضي ، فعَسَاها تُمسكُ بطَيْفٍ منْ شَبَاب ، وقبْضَةٍ منْ تَاريخ ، ومُسْكةٍ منْ تُرَاث ، ولعلّ كتاب بافقيه القادم الموسوم مكة التي نعرفُها .. مكة التي لا نعرفها يكشفُ اللّثَامَ عن تلكَ الآمال .. وما زلنا منتظرين ! وصِدْقاً يُعتبرُ هذا الكتابَ لَبِنَةَ من ذَهَبٍ في صَرْحِ المَكتبةِ المَكيةِ ، جَدِيرٌ بالقِرَاءَةِ والدّراسة والاحْتفاء الذي لم يأخُذْ حَقّهُ فيهِ حتى بَعْدَ هذهِ السّنينَ الخَمْسِ رغمَ ما صَدَرَ خلالَها منْ كُتُبٍ وتَحْقيقاتٍ وآثارٍ لمْ تُوَازِيهِ أصَالَةً وابْتِكَارا . * مِن آخِرِ السّطْر : يقولُ د.سمير الضّامر في خاتمةِ مَقَالِهِ أدب الحجاز .. حسين بافقيه بجريدة اليوم في تاريخ 5-9-2013م : إنّ الاحتفاءَ بأدبِ الحِجَازِ والحجازيينَ في مملكتِنَا الحَبيبة ليسَ فيهِ عُنْصُريّة بلْ هوَ أدبُ التّأسيسِ وحَجَرُ الزّاويةِ والخِطابِ المُهِمّ في التاريخ الثقافي المعاصر ، ولا يجوزُ أنْ نسَمّيهِ بغيرِ اسمِهِ ؛ وذلكَ لضَمَانِ الحِفَاظِ على الهُوِيّةِ والتاريخ الذي انطلقَ من جَنَبَاتِ البيتِ العَتيق لكلّ أرْجَاءِ الدّنيا .Shuaib2002@gmail.com

مشاركة :