ثلاثة أشهر روائية تكشف خفايا التاريخ السوداني بقلم: عمار المأمون

  • 6/6/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

ثلاثة أشهر روائية تكشف خفايا التاريخ السودانييقف النص الروائي في بعض الأحيان في مواجهة النص التاريخي، فالأول ذاتي وشخصي وانفعالي، ونابع من التجربة الشخصية للكاتب، في حين أن الثاني مؤسساتي ورسميّ ويدعي الشرعية وامتلاك الحقيقة، هذه المواجهة لا تكون فقط على صعيد المضمون أي طبيعة الأحداث ومدى حقيقة حدوثها أم لا، بل تنسحب أيضاً على شكل التقنية السردية المستخدمة، فالمؤسساتي/ التاريخي يدّعي الحياد، وينتمي إلى السلطة ليفسّر ما حدث لـ”الجمهور” أو “الشعب”، في حين أن الشخصي ينتمي إلى حميمية الأفراد وخصوصيتهم، إذ لا يهدف أحياناً إلى التفسير بل إلى رصد الحدث بوصفه مؤثراً على الفضاء الخاص والعلاقات ضمنه.العرب عمار المأمون [نُشر في 2017/06/06، العدد: 10655، ص(14)]السودان حكايات لا تنتهي (لوحة للفنان إبراهيم الصلحي) يبحث أركانجلو مرجان عن والده الذي اغتيل حين كان الأول صغيراً، يعود إلى مدينته “واو” في السودان الجنوبي في بحث عن ماضيه الذي لا يذكر منه إلا بضع صور وهروب مفاجئ مع والدته بعيداً عن الحرب. حكاية مرجان هذه نقرأها في “جنة الخفافيش” الرواية الأولى للكاتب بوي جون، الصادرة عن دار الساقي هذا العام ضمن منحة آفاق لكتابة الرواية، إذ نتلمس فيها تاريخ السودان الجنوبيّ وبلاد مزقتها النزاعات والحرب الأهليّة وذلك من وجهة نظر شخصيّة لطبيب ظن أن والده الموسيقي قتل صدفة ضمن عرس يتناساه الجميع. نقرأ الرواية بوصفها مذكرات أركانجلو، الطبيب الذي ترك جنوب السودان صغيراً ليعود الآن مسكونا بهاجس البحث عن والده، مستعيداً الأحداث التاريخيّة التي مرت بها المنطقة منذ ستينات القرن الماضي حتى الآن، فالتدوين الذاتي الذي يقوم به الراوي مرتبط بهاجسه الشخصي بالبحث، هو يعي فعل الكتابة بوصفه سرداً موازياً للتاريخ الحقيقي، ليأتي هذا التدوين الذاتي دعوة إلى التفكير في النصوص الرسميّة الأخرى، أشبه بتأريخ مواز قائم على البحث الشخصيّ والمصادفات التي تمر بالراوي في مدينته. الرواية مقسّمة إلى أيام تحمل تواريخ تمتد لحوالي ثلاثة أشهر، والتي ترسم “مغامرة” الراوي في المدينة، هذه المذكرات تختلف عن التدوين الرسميّ بوصفها غير منتظمة، أي تحوي انقطاعات وفراغات تمتد لأسابيع أحياناً، أو أن موضوعاتها تتشتت عن “البحث”، ينفلت فيها الراوي في تخيّلات شخصيّة وقصص فرعيّة، ليعيد تكوين الفضاء الذي ابتعد عنه لسنوات، فهو يحفر في ذاكرته وذاكرة من تبقى بحثاً عن أي أثر لوالده، أو من يعرفه، إذ يلتقي أًصدقاء وأقرباء قدامى لكل منهم حكاية لم يعرفها، هو يدون ضد النسيان، ولردم الفراغ الذي خلقته سنون الحياة بعيداً.مذكرات شخصية يستعيد أركانجلو أيضاً نصوصاً أخرى ضمن هذه “اليوميات”، مقالات من جرائد وحكايات شعبيّة ومراسلات غرامية مع حبيبة بعيدة، لنقرأ ما يشبه بحثاً أحفورياً عن بقايا ماض لم يتبق منه الكثير، مجرد منزل قديم واسم والده المحفور أسفل نصب تذكاري وصور متفرقة، هذا الماضي ذاته يُعاد تدوينه فترة انفصال السودان الجنوبي وما بعدها، لنكون أمام تدوين جديد أيضاً، وكأننا أمام نصوص جديدة يحاول كل منها اكتساب شرعيته بوصفه “التاريخ”. هذا الوعي بالكتابة مرتبط بملامح الحبكة البوليسية التي تحويها الرواية، فهي “مغامرة” لاكتشاف القاتل وسبب القتل في الوقت ذاته، ما يترك القارئ متأهباً دوماً يجمع إلى جانب الراوي تفاصيل مختلفة من أجل الوصول إلى الحقيقة سواء عبر النصوص الأخرى التي يكتشفها الراوي أو الحكايات الشعبيّة أو ذاكرته الشخصيّة ومن حوله. يرسم جون بطله بوصفه يتيماً غريباً عن أرضه عاد إليها باحثاً عن الحقيقة، هو مشحون بالنوستالجيا والأفكار الرومانسيّة، مع ذلك هو شاهد على العنف والوحشية اللذين عرفهما المكان، إذ تراوده كوابيس عن قتل وحشي لم يعرف سببه، فصورة أبيه الفنان الموسيقي هي الراسخة في ذاكرته، ومع استمرار بحثه تنكشف أمامه حقيقة والده، فمن كان يظنه فنانا بسيطاً كان ناشطا سياسياً تابعا لتنظيم سريّ، تعرض للاغتيال في إحدى حفلات الزفاف، ليعيد بعدها الراوي محاكمة تاريخه الشخصي، فهذا الاكتشاف الذي نعرفه في النهاية يتركنا أمام تساؤلات أخرى؛ هل هناك مذكرات سابقة على هذه التي نقرأها كتبها الراوي، هل سيعيد تدوينها على ضوء ما اكتشفه، هل النصوص والمعلومات الجديدة التي اكتشفها ستغير شيئاً من كيفية تدوينه عن ذاته. تحضر الثقافة الشعبيّة في الرواية لتعرفنا على عوالم جنوب السودان وخصوصاً تلك المرتبطة بجنة الخفافيش نفسها التي تحمل الرواية عنوانها، ودلالاتها المجازية والواقعية في الرواية، إذ الحكايات الشعبيّة تختزل مجازيا الواقع المعيش، فالحرب الأهلية والاتفاقيات الجديدة كانت تؤثر على حركة الأفراد وتنقلهم كما نرى في حكاية قريب الراوي الذي كان من المفترض أن يزور البلاد، إلا أنه تلقى تحذيرات عن خطورة الزيارة، ما منعه من العودة، وكأن احتمال الاختفاء حاضر دوماً، فالبعض يختفي ويحضر دون إنذار أحياناً، وكأنه أشباح من الممكن أن يتلاشوا. كذلك يحضر هاجس الرحيل بعيداً بوصفه احتمالا آخر للاختفاء، ذلك أن الممرضة التي اعتنت بأركانجلو وأخوها يقررون السفر خارجاً، فهواجس الحرب والموت والرحيل عنها تحضر بشكل خفيّ في الرواية لتظهر بعدها فجأة، كالبرق الذي يخافه الجميع، إذ يسقط فجأة محرقاً أحدهم أو قاتلاً إياه، فالبرق المفاجئ يترك الجميع حذرين، أشبه بالاغتيال أو الحرب اللذين قد يقعا في أي لحظة.

مشاركة :