يذكر الكاتب و الباحث المشهور “نسيم طالب” في كتابه (البجعة السوداء) قصة حدثت في السبعينات الميلادية عن طفل رضيع سقط في بئر بإحدى مدن إيطاليا، و بقي في قاعها لعدة أيام يبكي بلا حول منه و لا قوة، ولأن فرق الإنقاذ لم تتمكن من إخراج الطفل، ظلت هذه الحادثة حديث الناس و الشغل الشاغل في كل أرجاء إيطاليا و أصبح من النادر حينذاك أن تجد أحدًا في إيطاليا لم يسمع بهذه المأساة الوطنية.في الوقت ذاته كانت لبنان تعاني ويلات الحرب الأهلية التي حصدت أرواح الآلاف و شردت كثيرًا من اللبنانيين من أراضيهم و على الرغم من ذلك كله، كان اللبنانيون في ظل محنتهم و على الرغم من كل الأخطار الدائرة من حولهم من قتل و خطف و تفجير، متعاطفين مع ذلك الطفل الإيطالي و يتابعون أخباره بكل شغف إلى أن تمكنت السلطات الإيطالية من إنقاذه في نهاية المطاف.أؤكد لكم-رغم أني لم أعش تلك المرحلة- أن أحدهم وقتها قد تساءل و قال: “أَكُلّ هذا التعاطف لأجل صبي إيطالي وقع في بئر؟ أين أنتم عن الأطفال الذي يقتلون في لبنان كل يوم؟”.وهذا السؤال، عزيزي القارىء، يشابه سؤالاً نسمعه ونقرأه كل يوم في السنوات الأخيرة: “لِمَ تتعاطفون مع ضحايا الحوادث الإرهابية في أوروبا؟ أين أنتم عن الضحايا في سوريا؟”.سؤال مشروع و في محله في كلتا الحالتين، للإجابة على هذا السؤال يتوجب علينا أن نضع أيدينا على القاسم المشترك بين الحالتين اللبنانية و السورية الذي هو لب المشكلة والذي تتمحور حوله هذه المعضلة الأخلاقية في نظر الكثيرين.يقول الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين: “مقتل شخص حادثة مأساوية، مقتل الملايين مجرد إحصائية”؛ كان التعاطف مع ضحايا الأزمة السورية في بدايتها عاليًا جدًا، نتعاطف مع الضحايا و الصور التي تردنا عنهم، نتكلم عنها في شبكات التواصل الاجتماعية بكل ما أوتينا من عاطفة و غضب و نطالب بالثأر لهم، ثم على مر الأعوام تتوالى صور الضحايا و المجازر تلو الأخرى تلو الأخرى تلو الأخرى حتى أصبح الأمر مجرد حادثة أخرى تحوي رقمًا جديدًا من الضحايا قد نتعاطف أو لا نتعاطف معها.يصف عالما النفس “ديبرا سمول” و “بول سلوفيك” هذه الظاهرة بـ”إنهيار التعاطف Collapse of Compassion”، القاسم المشترك بين الحالتين السورية و اللبنانية؛ كلما زاد عدد الضحايا في حادثة ما، فإن مقدار التعاطف الذي يشعر به البشر حيال ضحايا هذه الحادثة يذهب في الاتجاه المعاكس، و كنتيجة لذلك تنخفض رغبتهم في الحديث عن تلكم الحادثة أو دعمها و قد يصل الأمر إلى تجاهل الحادثة تمامًا!لكن لماذا يحصل هذا الانهيار؟ أليس من المفترض أن كلما كبر حجم الفاجعة كلما زاد تعاطفنا معها؟ يبدو الأمر كذلك لوهلة لكن في حقيقة الأمر، حسب الدراسات الأخيرة في علم النفس، يحصل هذا الانهيار كوسيلة دفاعية تلقائية تحمي الشخص المتلقي من سيل العواطف الذي قد يغمره و ينجرف معه.في المقابل، الحوادث الإرهابية التي تحصل في مدن أوروبا، من باريس و بروكسل و مانشستر و غيرها، إذا ما قورنت بما يحصل في سوريا فإنها تعد حوادث فردية تحصل في أماكن لا يوجد بها صراع مسلح، و بالتالي يكون حجم التعاطف معها كبير نسبيًا إذا ما قورنت بما يحدث في سوريا أو ما حصل في حالة الطفل الإيطالي و متابعيه اللبنانيين.معاذ الله أني أدعو من خلال هذا المقال إلى مزيد من التجاهل لما يحدث للشعب السوري الشقيق، لكن ما يحدث هناك أكبر و أعظم مما قد تتحمله النفس البشرية، كارثة بشرية مهولة تجبر الإنسان على تجاهلها رغمًا عنه كي لا يفقد الأمل في هذه الحياة.كلنا أمل و رجاء أن تنفرج هذه الأزمة عن الشعب السوري و تنكشف غمته في القريب العاجل.الرأيكتاب أنحاءوسيم عازب
مشاركة :