شمولية القرآن.. لا اجتهاد إلا بعلم كتاب الله

  • 6/7/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قال الشيخ علي محيي الدين القره داغي في كتابه الاجتهاد، والذي ينشر على حلقات بصحيفة «^» طوال شهر رمضان المعظم: «أهم العناصر المطلوبة للمجتهد والمفتي أن يعلمه حول مصادر الاجتهاد والاستنباط: المصدر الأول «الكتاب»، وهو القرآن الكريم المنزل بلفظه ومعناه على الرسول -صلى الله عليه وسلم- المعجز بلفظه ومعناه، المتعبد بتلاوته الموصول إلينا بالتواتر». وأضاف: «لا يجوز لأحد أن يجتهد أو يدعي الاجتهاد إلاّ إذا علم من القرآن الكريم ما يأتي»، ويواصل في هذه الحلقة ما يجب معرفته من القراَن الكريم: (7) التعامل مع القرآن الكريم بمنهجية الفهم الثنائي والنظرة الجامعة لمقاصد القرآن، ولجميع الآيات الواردة في الموضوع الواحد، بل والأحاديث الموضحة لها إن وجدت، وهذه النظرة سميتها بالنظرة الشفعية، أو الثنائية البعيدة عن النظرة الأحادية، فمثلاً لو أخذنا الحكم من قوله تعالى: «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»، وقوله تعالى: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى»، ونحوهما من الآيات لظهر قول الجبرية بأن الإنسان مسير، ولكن لو أضفنا إليها الآيات الأخرى التي أخذت بها القدرية والمعتزلة على أنها تدل على أن الإنسان مخير مطلقاً، مثل قوله تعالى: «فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ»، وجميع الآيات التي أسندت الأفعال إلى الإنسان والجزاء عليها، لتوصلنا إلى الحق، وهو أن الله تعالى منح للإنسان الحرية والإرادة والاختيار والمشيئة، ولكن إرادة الله تعالى ومشيئته وقدرته فوق إرادة الإنسان، فهذه لها الدائرة الأولى المهيمنة، وأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شيء، في حين أن لإرادة الإنسان دائرتها الخاصة بها وفق سنن الله تعالى. يقول ابن القيم: «وأرباب هذه المذاهب، مع كل طائفة منهم خطأ وصواب»، ثم ذكر أن مع الجبرية الحق في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ولكنهم أخطؤوا في نفي الإرادة والاختيار عن الإنسان، والقدرية أصابت في إثبات القدرة والاختيار والإرادة، ولكنهم أخطؤوا في جعلها مستقلة عن قدرة الله وإرادته ومشيئته. وهكذا في جميع الآيات القرآنية التي تتطرق إلى أمرين مثل مدح المال، وذمه، والفقر والغنى ونحو ذلك، فقد رأينا جملة من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة تتحدث عن مدح المال والثناء عليه ودوره في بناء الحضارة والخير، ومجموعة أخرى تتحدث عن ذم المال وفتنته وخطره ونحو ذلك. ولكن لو جمعنا الطائفتين وفق الفهم الثنائي، ونظرية الشفع لما وجدت مشكلة، حيث يحمل المدح للمال والغنى حينما يكون المال والغنى من كسب مشروع ويصرف في الخير، ويحمل الذم لهما حينما يتحققان بالحرام، أو أن يكونا سبباً ووسيلة للشر والفتنة ونحوهما. فالمنهج الشفعي الجمعي الثنائي يوصل المجتهد أو الباحث إلى الحق الجامع، أما النظرة الأحادية الجزئية فهي التي تقطع أوصال النصوص، وأي فهم أو بناء على أساسها سيؤدي بلا شك إلى التعارض والتناقض، ومن المعلوم أن المنهج الزوجي الشفعي هو المتناسق والمنسجم مع طبيعة الإنسان -بل الكون كله- القائمة على الزوجية فقال تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ» وبالتالي فإن فهم الآيات التي تتعلق بهذا الإنسان الزوجي لن يتكامل إلاّ بالمنهج الزوجي نفسه. (8) التعامل مع القرآن الكريم بمنهجية: أ- شاملة لكلياته وقواعده ومبادئه العامة، التي أولى لها القرآن الكريم عناية قصوى، ولم يدخل في التفاصيل إلا قليلاً، ولذلك فإن الإلمام بتلك المبادئ يساعد الباحث، والمفتي، والمجتهد على فهم القرآن الكريم ودلالاته وإشاراته، يقول الإمام الشاطبي: «اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، والذي نزل بها القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة، كالصلاة وإنفاق المال، وغير ذلك، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر، ثم لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج». والكليات القرآنية تشمل الكليات اللفظية التي يعبر عنها بلفظ عام مثل: «كل ما ذكر من لفظ «إفك» فهو الكذب وكل شيء في القرآن الكريم «قاتلهم الله» يعني لعنهم الله وهكذا ، وقد يأتي الاستثناء بعد الإطلاق مثل كل ما في القرآن من ذكر البعل فهو بمعنى الزوج إلاّ في قوله تعالى «أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ» أي صنماً . وقد ألف في هذا الباب كثير من الكتب المستقلة أو المتضمنة له، وأول من جمع هذه الكليات اللفظية -حسب علمنا هو أبو الحسين الملطي العسقلاني -ت377هـ- حيث جمع في كتابه «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع» عن مقاتل أكثر من 90 كلية، ثم جاء الإمام اللغوي أحمد بن فارس -ت395هـ- في كتابه الموسوم «الأفراد»، حيث نقل منه الزركشي والسيوطي كثيراً من هذه الكليات اللفظية. ولا تقف الكليات عند الألفاظ، بل تشمل الكليات والمبادئ والقواعد العامة الحاكمة في القرآن الكريم من الكليات الاعتقادية، والأخلاقية، والسلوكية، والاجتماعية، مثل كليات: الحقوق، وكرامة الإنسان، وإقامة العدل في جميع الأحوال، ومنع الظلم، ومنع الفساد الشامل للفساد المالي والاقتصادي، والأخلاقي، والإداري، والسياسي، والبيئي، ومنع الإسراف، والوفاء بالعقود والعهود والوعود، ونحوها، ومثل كلية أن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، وقد يعبر عن الكلية بجملة حصرية مثل قوله تعالى: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»، وقوله تعالى: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، وقوله تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، وقوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، وقوله تعالى: «مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ» وهكذا. فهذه الكليات في غاية الأهمية بالنسبة للباحث والمفتي والمجتهد، لفهم القرآن الكريم والاستنباط منه، ثم إن شمولية القرآن إنما تتحقق بالكليات، ولا يمكن أن تتحقق بالجزئيات التي تتناهى، فقال سبحانه: «وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً»، وقال تعالى: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»، فهذا التفصيل لكل شيء، والتبيان لكل شيء، إنما يتحققان بالكليات العامة والمبادئ والقواعد الكلية، بالإضافة إلى أن معرفة هذه الكليات بنوعيها تحميه من التناقض بين الجزئيات والكليات، وبين الوسائل والمقاصد والغايات، فتجعل اجتهاداته متناسقة مطردة ومتوافقة مع المقاصد العامة، كما أنها تساعده على أحكام الجزئيات الكثيرة بإدخالها تحت دلالات هذه الكليات . وقد كان الصحابة بفطرتهم السليمة وسليقتهم يدركون هذه الكليات ويحسون بها، ولذلك لما نزل قوله تعالى: «مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً» شق على كثير منهم، فجاء أبوبكر فقال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «رحمك الله يا أبابكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست يصيبك اللأواء، فذاك ما تجزون»، وفي رواية أخرى: «غفر الله لك ...» ثم جواب أبي بكر: بلى، قال: «هذا ما تجزون به». ب- شاملة لتتبع موارد الكلمة في القرآن الكريم، واستعمالاتها المتنوعة، فقد يطلق لفظ على معنى في سورة، وعلى معنى آخر في سورة ثانية، ومعنى ثالث في سورة ثالثة، مثل لفظ «الروح» و»الآية» و»النسخ»، فإذا لم يقم المجتهد أو المفتي بجمع هذه الكلمات في آياتها لوقع في أخطاء في الغالب. والخلاصة أن التفسير الموضوعي التحليلي مطلوب للفهم الصحيح والاجتهاد الدقيق. ج- شاملة لمعاني الكلمة في عصر النزول وما طرأ عليها من تغيير، حيث يجب الرجوع إلى زمن الرسالة في تحديد الكلمة، وهنا يتطلب معرفة الآيات المكية والمدنية، ومعرفة خصائص كل عهد منهما. د- شاملة لسياق الآية سياقاً موضوعياً، ومكانياً، وزمانياً وللحاقها، أي الآيات التي جاءت بعدها. (9) الحرص الشديد على تفسير القرآن بالقرآن نفسه، فمن سنة القرآن أنه يجمل في مكان، ويفصل في مكان آخر، فإذا لم يجد، فعليه الرجوع إلى بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم إلى الروايات الثابتة من الصحابة الكرام.;

مشاركة :