كيف تحولت نكسة 67 إلى هزيمة شاملة في 77؟

  • 6/7/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

رغم مرور نصف قرن على النكسة التي تعرضت لها الجيوش العربية في حرب 1967، لا تزال آثارها المريرة في الواقع العربي قائمة وملموسة، بدليل استمرار سيطرة إسرائيل على معظم الأراضي التي احتلتها إبان هذه الحرب. لكن هل تعود حالة الضياع التي يعيشها العالم العربي الآن إلى نكسة 1967 أم أن لها أسباباً أخرى يتعين تقصيها والبحث عن جذورها إذا أراد العرب أن يعودوا إلى التاريخ الذي يبدو أنهم خرجوا منه؟ لتقديم إجابة، بعيداً من التنابذات الأيديولوجية أو تصفية الحسابات الشخصية، يتعين فتح خزائن الوثائق الرسمية للدول العربية المعنية وإخضاعها للبحث والدراسة من جانب لجان علمية وفنية متخصصة. ولأن هذه الوثائق لا تزال حبيسة أدراج نُظم حكم لا تؤمن بحق شعوبها في المعرفة، لم يعد أمام المهتمين بالبحث عن إجابة موضوعية عن السؤال المطروح سوى تقديم رؤى واجتهادات شخصية، في حدود ما تتيحه القدرات التحليلية والمعارف الذاتية لكل باحث. وعلى كل حال، لا أظن أننا في حاجة إلى وثائق من أي نوع للتوصل إلى نتيجة أوليّة تقود إلى تحميل عبدالناصر المسؤولية عن تلك الكارثة، ليس فقط بحكم موقعه السياسي كرئيس للدولة المصرية ولكن أيضاً بحكم مسؤوليته المباشرة عن قرارات تم اتخاذها إبان الأزمة التي أفضت إلى النكسة والتي امتدت من منتصف يوم 14 أيار (مايو) 1967، حين بدأ حشد وتحريك القوات المصرية نحو سيناء، وحتى صبيحة يوم 5 حزيران (يونيو)، حين انطلقت الطائرات الإسرائيلية ونجحت في تدمير سلاح الجو المصري وهو قابع على الأرض. غير أن تحديد هذه المسؤولية، التي اعترف بها عبدالناصر نفسه بقرار التنحي عن منصبه يوم 9 حزيران (يونيو)، لا يفسر ثقل الهزيمة العسكرية. ردود الفعل أكدت أنّ الشعب المصري وضع خطوطاً فاصلة بين شخص عبدالناصر، الذي منحه ثقته الكاملة على رغم ما ارتكبه من أخطاء في الحسابات، وبين نظامه السياسي، الذي رفض الشعب منحه شيكاً على بياض في مرحلة ما بعد النكسة. الثقة في شخص عبدالناصر تجلّت في أكثر من مناسبة، ربما كان أهمها خروج الشعب المصري إلى الشارع يومي 9 و10 حزيران (يونيو) للتعبير عن رفضه الهزيمة وقرار التنحي، وانحيازه إلى جانب عبدالناصر في صراعه المفتوح مع عبدالحكيم عامر، واستعداده لتقديم التضحيات المطلوبة لإعداد البلاد لمعركة الثأر، وأخيراً خروجه مرة أخرى يوم 28 أيلول (سبتمبر) 1970 للتعبير عن حزنه العميق لوفاة عبدالناصر ولإلقاء نظرة وداع على جثمانه المحاط بطوفان من البشر ونهر من الدموع. أما رفض الشعب المصري للنظام السياسي لثورة تموز (يوليو) فقد تم التعبير عنه بوسائل عدة، خصوصاً عبر تظاهرات عارمة انطلقت احتجاجاً على نتائج محاكمات صورية جرت لبعض القيادات العسكرية، وعبر حركة طالبية واسعة النطاق عبرت عن رفضها لسطوة أجهزة الأمن وطالبت بإقامة دولة المؤسسات، وهي مطالب تفاعل معها عبدالناصر إيجابياً، بإصدار بيان 30 آذار (مارس) 1968 والجهود التي بُذلت لإعادة بناء الجيش على أسس مهنية خالصة وتقليص مظاهر تدخله في الحياة المدنية إلى أدنى حد ممكن بعد أن كانت تجاوزت كل الخطوط الحمراء في زمن عبدالحكيم عامر. كان لافتاً أن الجهود الرامية لمحو عار الهزيمة العسكرية بدأت بعد أيام من توقف إطلاق النار. فعلى الصعيد العسكري، شكلت معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات وحرب الاستنزاف التي راحت تتصاعد تدريجياً إلى أن وصلت ذروتها عام 1969، معالم مهمة على طريق الاستعداد لمعركة كبرى وضعت خططها الأولية في عهد عبدالناصر. وعلى الصعيد السياسي بذل عبدالناصر جهوداً مضنية لتفعيل العمل العربي المشترك، عكسته نتائج قمة الخرطوم، ولبناء عمق إسلامي داعم للعمل العربي المشترك، بالانفتاح على إيران وتركيا، ورفض أي تسوية منفردة مع إسرائيل، بإصراره على ربط الانسحاب من سيناء بالانسحاب من الضفة الغربية أولاً. لذا يمكن القول أن الإنجاز العسكري الذي تحقق في حرب 1973 كان ثمرة جهود تمت في عهد عبدالناصر ولولاها لما كانت هذه الحرب ممكنة أصلاً. لا شك في أن نجاح القوات المسلحة في عبور قناة السويس وفي تدمير خط بارليف شكلّ إنجازاً كافياً لغسل عار الهزيمة العسكرية التي لحقت بها عام 1967، غير أن تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى انتصار سياسي تطلب إرادة سياسية ومهارة ديبلوماسية لم يمتلكهما السادات، على رغم جسارته في اتخاذ قرار الحرب بعد فشل كل محاولاته للبحث عن مخرج سياسي يجنبه اللجوء إلى القتال. ومن المثير للتأمل أن السياسات التي اتبعها السادات على الصعيدين الداخلي والخارجي قادته في نهاية المطاف إلى زيارة القدس التي فتحت الطريق لصلح منفرد مع إسرائيل. فقد عكست هذه السياسات نهجاً يتناقض كلياً مع النهج الذي اعتمدته ثورة تموز (يوليو) التي فجرها تنظيم «الضباط الأحرار» الذي كان السادات أحد أعضائه البارزين. لذا يمكن القول إن فترة حكم السادات، خصوصاً بعد حرب 1973، شكلت في مجملها ثورة مضادة لثورة 1952. وهنا تكمن المفارقة التاريخية الكبرى. فالنظام السياسي لثورة تموز، والذي أسسه وقاده عبدالناصر المسكون بهواجس أمنية، أفرز قيادات عسكرية من نوع عبدالحكيم عامر، وقيادات سياسية من نوع أنور السادات وحسني مبارك، وهي قيادات لعب بعضها دوراً حاسماً في إضعاف الثورة في وجود عبدالناصر نفسه، ثم في تصفيتها بعد رحيله. كما يمكن القول إن ثورة 2011 كانت في أحد أبعادها ثورة على النظام السياسي لثورة تموز المعتمد على الأجهزة الأمنية كبديل للمؤسسات السياسية في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. لم يكن قرار السادات زيارة القدس عام 1977 حدثاً فردياً أملته ضرورات ترشيد إدارة الصراع مع إسرائيل، بقدر ما كان نتاجاً طبيعياً ومنطقياً وربما حتمياً أيضاً لمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي عكست انحيازات أيديولوجية وطبقية جسدتها سياسات الانفتاح الاقتصادي، وشعار «مصر أولاً»، وفك الارتباط بين الأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي، والاعتماد على المعونات والاستثمارات الأجنبية لتحقيق التنمية، وعلى الوساطة الأميركية لإيجاد تسوية للصراع العربي- الإسرائيلي، وكلها سياسات تناقضت تماماً مع النهج البراغماتي الذي سلكته ثورة تموز وقاد إلى صدام متكرر مع السياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. وبعد 40 عاماً من زيارة القدس وخمسة وأربعين عاماً من تطبيق هذه السياسات الفاشلة، ها هي مصر، بل والمنطقة العربية برمتها، تجد نفسها في وضع لا تحسد عليه على المستويات كافة. لقد شكّل قرار السادات زيارة القدس البداية الحقيقية لتكريس حالة وعقلية الهزيمة، على رغم أن حرب 1973 كانت أتاحت فرصة حقيقية لتجاوزها. فقد تسبب هذا القرار في تآكل دور مصر الإقليمي والدولي. وفي غياب الدور القيادي لمصر توالت الكوارث على العالم العربي، بدأت بتدمير العراق ووقوعه فريسة للاحتلال الأجنبي، وتواصلت مع تكاثر التنظيمات الإرهابية كالطاعون الذي ضرب المنطقة، وفي ظلها تواصلت السياسات التي تسببت في اندلاع شرارة الثورات العربية التي تم إجهاضها وأدت إلى تحول العالم العربي إلى ما يشبه المسرح العبثي. الهزيمة العسكرية التي لحقت بالجيوش العربية عام 1967 ليست هي المسؤولة عما آل إليه حال العالم العربي، فقد أثبتت الشعوب والجيوش العربية عام 1973 قدرتها التامة على تجاوز هذه الهزيمة، لكن الجري وراء وهم التسوية السياسية مع إسرائيل قاد المنطقة إلى ما هي فيه الآن من كوارث وسيقودها إلى ما هو أسوأ إن استمرت النظم العربية في السير على النهج نفسه.     * كاتب مصري

مشاركة :