كثيراً ما تعجز لغة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني عن اللحاق بالتحولات والأحداث التي يشهدُها هذا الصراع أو عن رؤية تطورات عميقة فيه. فهي محكومة دائماً لحقبة سابقة. واللغة هنا ليست قاموس مفردات فحسب بل منظومة من التصورات للصراع وقواعده وفرضيات وأحكام تتصل به. وهي الشكل الذي نفهم فيه الظاهرة وتحولاتها ونبني على أساسه مواقفنا وسياساتنا. فالمفهوم الفلسطيني (والعربي العام) للصراع في بدايته اختلف عنه في مرحلة العقدين الأخيرين من القرن الفائت أو عنه في الراهن. ويتصل ذلك بأيديولوجيات وحالة المراكز العربية والنظام الإقليمي أو الدولي. ولا يقلّ عن ذلك، بحالة السياسة الفلسطينية وتطور حالة التنظيم الداخلي للشعب الفلسطيني في مواضع وجوده. وأرجّح أننا في مرحلة سنكون فيها مضطرين اضطراراً لتعديل لغتنا عن الصراع ومَفْهَمَتَه حتى لا نتقادم وينسانا الوقت وراءه. بعد أكثر من سبعين عاماً على النكبة وبعد خمسين سنة على الاحتلال علينا أن نُعيد قراءة الحاصل على الأرض من دون أن نجزئه إلى مقاطع من الوقت أو أحداث فاصلة مصممة. سأقترح قراءة من دون تقطيع لمئة سنة فلسطينية مثلاً، فنقيس المحصّلة. أقترح ألا نرى الجغرافيا الفلسطينية قبل أن نرى الشعب الفلسطيني (الإنسان الفلسطيني) فهو الأساس بخاصة أن كثيراً من لغتنا وإنتاجنا اللفظي أهدرناه على «قضية فلسطين» و «فلسطين» التي صارت مع الوقت أكثر غموضاً وضباباً وانزلاقاً من بين الأصابع. كما أن التحدّي الأساسي يظلّ أمام هذا الشعب صاحب الشأن الأول والأخير. وهو هو الواقف أمام سؤال التاريخ - وماذا الآن؟ بقوة الواقع والتجربة والأحداث لم يعُد الشعب الفلسطيني واضح المعالم إلا في ما نتخيّله، لأن قسماً منه صار «أردنياً» في مستوى السياسة والاقتصاد والممارسة، وقسماً ثانياً صار «إسرائيلياً»، وثالثاً اندمج في المنافي التي صارت «أوطاناً» بديلة، فيما ظلّ قسم منه واقفاً على زمن مُستقطَع في دول الجوار العربي - لبنان بخاصة. أما شعب غزة فقد فصلته حركة «حماس»، لفرط حماسها طبعاً، عن «شعب الضفة الغربية». هذه الصورة البانورامية لـ «الشعب الفلسطيني» تفترض اعترافاً ما من المتحدثين عن المسألة الفلسطينية كي يصحّ الحديث السياسي والتخطيط والتفكير بمستقبل هذا الشعب. وهنا أريد الإشارة إلى الفارق بين القول بالانتماء لشعب فلسطين- «شعب الجبارين» في الأسطورة العرفاتية، أو القول بالانتماء الثقافي لهذا الشعب، وبين ممارسة يومية لمشروع سياسي ننتمي إليه. ولنقرّ أن غالبية الشعب الفلسطيني غير مشاركة في المشروع السياسي الفلسطيني نفسه الذي نتحدث عنه كمسلّمة. كما أنه لم يعد للفلسطينيين مشروع واضح أو واحد. وهذه السيولة بالتحديد بدّدت اللغة القديمة وولّدت الحاجة إلى لغة جديدة تحدّ من السيلان وتساعد على التصويب. باعتقادي أن اللغة الجديدة ستنشأ من بناء المشروع من جديد من خلال الاعتراف بكل ما اعترى المشروع منذ بدايته. وعلى المشروع الجديد للنُخب الجديدة أن يستفيد من كل ما كان والأهمّ استشراف الآتي من خلال الحسم في جملة من القضايا - فهل يجوز بعد الآن الحديث عن إنهاء الاحتلال والعودة لحدود حزيران 67 كما تحدثنا منذ عقود؟ وهل يصحّ أن يكون المشروع لجزء من الشعب من دون الأجزاء الأخرى؟ هل يصح مثلاً تحييد الفلسطينيين في إسرائيل تحييداً كاملاً كما حصل وترك مصيرهم للمؤسسة الإسرائيلية؟ وهل المركز الفلسطيني في رام الله/القدس أم في فلسطيني الساحل أيضاً وفي عمان والمخيمات ومواقع النفي واللجوء؟ هل المشروع الفلسطيني يعني فئة فلسطينية بعينها؟ وماذا مع الفئات الأخرى وماذا يُتوقّع منها؟ وهل لهذه الفئات أن تطوّر مشروعاً مغايراً لها؟ بمعنى- هل سيكون المشروع الجديد جامعاً شاملاً لكل الجماعات الفلسطينية أم سيقوم بشطب بعضها وإعفاء بعضها الآخر بحجة الواقع السياسي أو «الوضعية الخاصة»؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تلحّ بفعل ضرورات تجديد المشروع فحسب بل من الواقع- لمن يميل إلى لغة «الواقعية السياسية». فالراهن الفلسطيني يقول صراحة إن إسرائيل الرسمية بغالبية نُخبها ألغت الخط الأخضر وحدود الرابع من حزيران 1967، وهي تمارس على جانبي الخط الأخضر السياسات ذاتها تجاه أبناء الشعب الفلسطيني. أما مواطنة الفلسطينيين الذين في إسرائيل فتتضح أكثر فأكثر كواحدة من أدوات تغييب المشروع الواحد والسيطرة على الجغرافيا والديموغرافيا والزمن الفلسطيني. والنُخب تنتقل في السنوات الأخيرة من فعل ذلك بشكل مُضمر مشفّر إلى القيام بذلك جهاراً. ويتضح أكثر فأكثر أن المشروع الإسرائيلي ليس ثابتاً بل متحوّل وهو قد يتواضع أو ينفلت كما الآن ليركّز على استثمار توازن القوى لفرض نفسه على كل أرض فلسطيني سيادياً وسياسياً وفعلياً واستحواذياً وإحلالياً. لا تعود إسرائيل وفق هذا التحليل مجرّد دولة تحتل شعباً آخر كما أقنعنا بذلك اليسار الصهيوني والإسرائيلي غير الصهيوني في إطار مناورته التاريخية للتستّر على جوهر المشروع الصهيوني ومفاعيله وإدامته. بل تصير كياناً متعدد الوسائل والآليات للسيطرة والاستحواذ الاستعماري. وإسرائيل - كما نقرأها الآن - تتمتع بأفضل سنيّها منذ قيامها في المستوى الاستراتيجي. فهي في أقوى أيامها قياساً بالجانب العربي عموماً. فللمرة الأولى منذ قيامها لا تتعرض لتهديد كياني وإن لا تزال أمام تحديات استراتيجية متمثلة بـ «حزب الله» أو «حماس» في قطاع غزة. لكن مثل هذه التحديات استراتيجية فقط ولا تهدد وجود إسرائيل. هذا فيما تلاشت تماماً أخطار الجيوش العربية الكُبرى والماحقة كما تخيلها الإسرائيلي الرسمي- في العراق وسورية ومصر. كما أن تحولات العالم العربي أعفت إسرائيل من اسئلة استراتيجية جسيمة حلّت محلها فُرص استراتيجية تستثمرها إسرائيل بنجاعة. في ظروف كهذه يتحتّم على الفلسطينيين أن يصوغوا مفهوم «الشعب الفلسطيني» و «المشروع الوطني» و «الوطني» وإلا تمددت السيولة حتى يصير الشأن الفلسطيني موضوعاً في كتب التاريخ والتُراث أو حرفاً سائلاً وضائعاً في السياسة. فلا يعود النقاش موقفاً هنا أو هناك للسلطة الوطنية أو أحد رموزها ولا بقاء «حماس» في الدوحة أو لا.
مشاركة :