لحضور مهرجان كان مذاق خاص مختلف عن مهرجانات أخرى. فالمهرجان يحوي عدة تظاهرات متجاورة ومتزامنة في نفس الوقت، مما يجعل الحضور يشعر بزخم المعروض وبضيق الوقت بشكل أكبر، وبأن هناك أشياء كثيرة لا يعرف عنها شيئاً تحدث في نفس اللحظة. فهناك أولاً النجوم ومحبوهم حيث يصطف العشرات منذ وقت مبكر، بعضهم يجلس على كراسي مصفوفة بعد الحواجز مباشرة منذ الخامسة مساء، والبعض الآخر يقف خلف الكراسي والحواجز لمشاهدة سيارات النجوم وهي تعبر الشارع ثم لمشاهدة النجوم وهي تمشي على السجاد الأحمر وتتوقف أمام عشرات المصورين الواقفين منذ وقت مبكر في أماكن متفرقة على طول مدخل مسرح الجراند لوميير لالتقاط الصور. ومع أن العرض الأول الافتتاحي لحاملي الدعوات كان في الثامنة والنصف مساءً, إلا أن طابور الحضور وقد لبست النساء والرجال ملابس سهرة فيكون منذ وقت مبكر وتصبح المنطقة المحيطة بالمسرح مزدحمة للغاية. أما من يرغبون في الحصول على دعوات فيقفون منذ الصباح الباكر ومعهم ورقة مكتوب عليها اسم الفيلم الذي يودون حضور عرضه وطلب بطاقة دعوة حتى يتمكنوا من دخول المسرح وحضور العرض مع نجوم الفيلم في ذلك اليوم. وهناك على عدة أمتار وفي زاوية أخرى من نفس قصر المهرجانات الذي يحوي مسرح اللوميير ولكن من مدخل آخر لمسرح الديبوسي معظم عروض المسابقة الرسمية وكافة أفلام مسابقة "نظرة ما" وأولوية حضورها هو للصحفيين والنقاد المقسمين إلى عدة أقسام في أولوية الدخول, فهناك أصحاب الحظوة في المهرجان والذين تم منحهم أصحاب البطاقات البيضاء، وهؤلاء ميسر لهم الدخول في كل وقت، فمعهم الكلمة السحرية لفتح مغارة علي بابا، وهي أكبر مسارح المهرجان وأهمها لحضور كل أفلام المسابقة الرسمية، والمؤتمرات الصحفية. يلي هؤلاء أصحاب البطاقات الوردية ذات النقطة الصفراء، وهؤلاء أيضاً حظوظهم عالية، فلا يحتاجون للوقوف ساعة أو أكثر قبل دخول الفيلم، حيث تفتح لهم البوابات أولاً، وهم عادة صحافيون أو نقاد لهم فترة طويلة في الكتابة عن المهرجان ويكتبون في صحيفة يومية. يلي هؤلاء في أولوية الدخول، حاملو البطاقة الوردية بدون نقطة، وهي البطاقة التي منحها لي المهرجان، وهذه البطاقة أفضل من بقية البطاقات، لكن يمكن أحياناً في العروض المسائية أن يقف أصحابها لفترات طويلة في انتظار الدخول، وهذا يعني الاستعداد بساعة قبل دخول الفيلم، ولا يمكن حينها حضور فيلم والانتهاء منه لحضور الفيلم الذي يليه مباشرة. يلي ذلك أصحاب البطاقات الزرقاء مكتوب عليها "صحافة" وهؤلاء عادة نقاد يكتبون في مجلات أسبوعية أو شهرية ثم هناك البطاقات الصفراء للمصورين، وبعدها الزرقاء ومكتوب عليها "مهرجان" لمن هم من الجهاز الفني والإداري لمهرجان ما، ثم السوداء للمنتمين للسوق وهؤلاء من الممكن جداً ألا يستطيعوا حضور فيلم في المسابقات حتى بعد الوقوف لفترة طويلة. ومع ذلك فالطوابير دائماً طويلة جداً ومحبو السينما يصرون على التعبير عن حبهم مهما بلغ الأمر. وبالطبع فحضور أي فعالية في المهرجان تعتمد إما على توفر بطاقة اعتماد أو دعوة لحضور عرض ما، كما أن المتقدم لطلب الاعتماد لا يعرف بماذا سيكرمه أصحاب المهرجان ولذلك فأولى الأمور التي تشي بإمكانية حضور أفلام كثيرة من عدمها نوع البطاقة الممنوحة. ولذلك فالكل ينظر إلى بطاقة الآخر بنوع من الحسد أو الشفقة حسب الفئة، والكل يعرف ببطاقته التي يحملها معه في كل الأوقات. وتصبح جزءاً من هويته خلال حضور فترة المهرجان. وهناك في أماكن أخرى عدا مسرحي الديبوسي واللوميير تعرض فيها الأفلام المشاركة في أسبوعي المخرجين وأسبوع النقاد ولكن من الصعب الحضور لأكثر من برنامج ولذلك فقد وجدت أن بعض الصحف كصحيفة الجارديان البريطانية، لديها ثلاثة صحافيين ويتم تقسيم الأفلام والبرامج بينهم لأن المعروض أكبر من أن يغطيه بالكامل شخص واحد. وهناك دائماً شعور بالحسرة لعدم مشاهدة أفلام لمخرجين معروفين أو أفلام تبدو جيدة من الأخبار المتناقلة عنها ولكن الوقت لا يتسع لها. وفي الطوابير هناك دائماً سؤال "ما هو أفضل ما شاهدت؟" ونقاش حول الأفلام التي تمت مشاهدتها. وبالتأكيد فالأذواق تختلف وقليلاً ما يكون هناك اتفاق حول الأفلام ولكن وجهات النظر المتعددة تثري المناقشة. وهناك أيضاً السوق المفتوح حيث تعرض الكثير من الأفلام كعروض أولى على أمل أن يتم اختيارها لمهرجانات أخرى أو للتوزيع التجاري وهي كثيرة لكن أغلبيتها لا يسمح بدخول الصحفيين إليها، لأن أي مراجعة غير إيجابية للفيلم قد تقلل من فرص نجاحه في التوزيع أو في عروض المهرجانات. وقد كانت هناك عروض كثيرة لأفلام صينية وأفلام إيرانية وأفلام دنماركية وغيرها, وهي متوزعة على مسارح كان. وهناك أجنحة لهذه الدول لتسويق لصناعة السينما فيها. عدا عن هذا فهناك عالم الفيلم القصير، حيث يوجد ركن الفيلم القصير وفيه تعرض الأفلام التي يرى المهرجان أنها تتوفر فيها مواصفات فنية مقبولة، فيقبل بعرضها في هذا الركن. وهو ركن مدفوع وغير تنافسي، ولكن تعرض فيه أفلام قصيرة للموزعين ومبرمجي المهرجانات حتى يختاروا الأفلام الجيدة منها لمهرجاناتهم. وهناك أيضاً مكتبة للأفلام القصيرة، ومن سجل بها من مخرجي الأفلام بإمكانه أن يؤجر غرفة صغيرة ويعرض فيها فيلمه لمجموعة من الأشخاص سواء كانوا صحفيين أو غيره وهناك أيضاً بعض اللقاءات والفعاليات لمخرجي الأفلام القصيرة. وطبعاً هذا بخلاف العروض العامة لبعض الأفلام الكلاسيكية والتي تعرض على البحر بعد منتصف الليل. في المقابل فإن العرض الأول لأفلام المسابقة يبدأ في الساعة الثامنة والنصف صباحاً. لتنطلق بعدها الأحاديث حول الأفلام والتعليقات النقدية سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو على التلفزيون وخاصة القنوات الفرنسية والإذاعية التي تترقب خروج النقاد والصحفيين من العرض الأول، لسؤالهم عن انطباعهم عن الفيلم، ورأيهم في أفلام المسابقة بشكل عام. وهناك المركز الصحفي الذي يمتلئ منذ الصباح الباكر بالصحفيين ليكتبوا مقالاتهم والمصورين أيضاً ليرسلوا صورهم التي أخذوها أثناء عقد المؤتمر الصحفي الذي يلي غالباً العرض الأول مباشرة. والشاشات تنقل المؤتمر الصحفي لمن لم يتمكن من حضوره باللغتين الإنجليزية والفرنسية. وتظل هناك حركة دؤوبة وازدحام يتزايد مع حلول المساء في كل المنطقة. ومن الأشياء الملفتة للنظر في مهرجان كان، أن المسرح الرئيسي لا تعرض فيه ملصقات دعائية للأفلام كما هو معتاد، ولكن ملصقات بصور المخرجين موزعة على أعمدته وهي يشي بسياسة المهرجان التي تعامل المخرجين على أنهم هم نجوم العمل. كما أن شاشة العرض للمسرحين الرئيسيين للمهرجان كبيرة جداً وبالتالي تجعل لمشاهدة الفيلم متعة مختلفة تماماً حيث تبدو جماليات الصورة بشكل أعلى وتسمح بالانغماس الكامل مع العمل. ولكن الحديث عن الأفلام هو جل ما يتناهى إلى سمعك في المقاهي والمطاعم والمسرح وغيره. هناك دائماً أشخاص منتشرون في كل مكان تذهب إليه في كان يحملون بطاقة التعريف بانتمائهم للسينما. وكل له فيلمه المفضل الذي يراه الفيلم الذي يستحق أن يأخذ السعفة. وقد تكون أكثر العروض خصوصية هي العروض التي يحضر مخرجو الأفلام فيها. فبعضها يمتد التصفيق لعدة دقائق، مع إن هذا لا يشي بالضرورة بإعجاب الجمهور بالفيلم بقدر تقديرهم للمخرج. فقد حدث هذا مع المخرجة الفرنسية المعروفة باسكال فيران بعض عرض فيلمها " Birds People"، والذي حضره كل أعضاء لجنة تحكيم "نظرة ما" على غير العادة في العروض الأخرى، وعلى الرغم من أن الفيلم لم يكن بالمستوى المتوقع لها ولم يكن من الأفلام الفائزة ولكن التحية كانت للمخرجة أكثر من أي شيء آخر. كذلك امتد التصفيق لفترة طويلة نسبياً للمخرج التركي نوري بيلج جيلان بعد انتهاء عرض فيلمه، وكذلك المخرج الألماني فيم فيندرز عند عرض فيلم The Salt of The Earth. أما أهم اللحظات وأشدها حماساً هي لحظة إعلان أسماء الفائزين، فبعد حضور كل أفلام المسابقة، أصبح في رأس كل صحفي وناقد أسماء معينة يرى أنها أحق من غيرها بالفوز، ولذلك فحالة الفرح والحماس تكون عالية عند فوز الشخص المتوقع. ومن الواضح أن مهرجان "كان" بطبيعة أفلامه وقوتها استطاع أن يحافظ على سمعة معينة امتدت على مدى 67 سنة سمحت له باحتلال مكانة المهرجان السينمائي الأهم وجعلت كل من يرتاده، رغم سوء الجو أحياناً والطوابير الطويلة، يكرر الحضور سنويا على مدى أعوام طويلة وصلت إلى عشرين وثلاثين سنة وأكثر. وقد كان شبه إجماع بين النقاد على أن أفضل المهرجانات في الأفلام المعروضة وأقواها فنياً هو مهرجان كان.
مشاركة :