د. أحمد سيد أحمدأوشكت معركة تحرير الجانب الأيمن من الموصل من قبضة تنظيم «داعش» الإرهابي على النهاية، وأصبحت معظم الأحياء الغربية للمدينة تحت سيطرة القوات العراقية، ولم يتبقَ سوى جيوب صغيرة تشمل المدينة القديمة التي فيها جامع النوري الذي أعلن منه زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي الخلافة في 2014، وثلاثة أحياء ملاصقة لها تشمل الصحة الأولى والزنجيلي والشفاء. ومع اقتراب عملية الحسم يزداد الوضع الإنساني تدهوراً وتتفاقم مأساة المدنيين، حيث أعلنت الأمم المتحدة أن هناك أكثر من 200 ألف شخص داخل المدينة القديمة يرزحون تحت حصار «داعش» ويعانون ظروفاً إنسانية بالغة من نقص الدواء والغذاء والماء ومتطلبات الحياة الأساسية بما ينذر بوقوع كوارث إنسانية خطيرة. مأساة المدنيين بدأت مع انطلاق تحرير مدينة الموصل في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2016 حيث نجحت المرحلة الأولى في تحرير الجانب الأيسر نهاية يناير/كانون الثاني 2017، وخلفت آلاف القتلى من المدنيين ونزوح أكثر من 450 ألف شخص إلى مناطق مختلفة في شمال العراق داخل مخيمات تعاني نقصاً حاداً في الغذاء والدواء ولم يعد منهم إلى أحيائهم سوى 150 ألف شخص. ومع انطلاق المرحلة الثانية في 19 فبراير/شباط الماضي لتحرير الجانب الأيمن ازدادت معاناة المدنيين ضراوة، حيث زادت أعداد القتلى منهم ووصلت إلى ثمانية آلاف شخص وزادت أعداد النازحين إلى أكثر من 650 ألف شخص، وتبقى منهم 200 ألف يواجهون المصير المجهول من الموت والكفاح من أجل الحصول على الماء والدواء والغذاء.عدة عوامل فاقمت من مأساة المدنيين خلال معركة الموصل التي زادت عن ثمانية أشهر وباتت على وشك الانتهاء:أولا: معركة تحرير الموصل هي من الحروب الجديدة التي تعرف بحرب المدن، وتقوم على حرب الشوارع وتحولها لساحات القتال وسط المدنيين، حيث تتم المواجهات بين القوات العراقية المختلفة المشاركة في القتال وتشمل قوات مكافحة الإرهاب وقوات الشرطة الاتحادية، إضافة إلى القوات الحليفة الداعمة لها لوجستياً واستخباراتياً من التحالف الدولي التي تضم قوات خاصة أمريكية وبريطانية وفرنسية، شاركت بشكل مباشر في القتال خلال معركة الجانب الأيمن، وبين عناصر تنظيم «داعش» التي وصلت إلى 6 آلاف مقاتل تراجعوا إلى ألف مقاتل بنهاية المعركة، يتمركزون داخل الأحياء ووسط العمارات بين المدنيين الذين يستخدمونهم كدروع بشرية في القتال لمنع تقدم القوات المهاجمة، ولذلك أصبح المدنيون بين مطرقة القوات العراقية والحليفة وبين سندان تنظيم «داعش» الذي يقوم بزرع القنابل والسيارات المفخخة في الشوارع وتفجيرها، وهو ما أدى لسقوط أعداد كبيرة من المدنيين.ثانيا: طبيعة العمليات القتالية تتم وسط الشوارع والمباني القديمة والأزقة الضيقة التي يصعب فيها تحرك المعدات العسكرية الثقيلة مثل الدبابات، ومن ثم تلجأ القوات العراقية إلى تكتيكات مختلفة للتغلب على استراتيجية «داعش» في استخدام السيارات المفخخة ونشر القناصة على أسطح العمارات وحفر الخنادق واستخدام الطائرات المسيرة لقصف القوات المهاجمة واستهداف المدنيين أيضا، حيث لجأت القوات العراقية بدورها إلى الاعتماد على استراتيجية الحصار والتطويق ثم الاقتحام والاعتماد على قوات خاصة مدربة ممثلة في جهاز مكافحة الإرهاب وقوات الشرطة الاتحادية لاقتحام الأحياء الواحد تلو الآخر، لتجنب الخسائر بين صفوف المدنيين، وهو ما أطال من أمد المعركة أكثر من الوقت الذي كان متوقعا لحسمها بنهاية عام 2016 كما أعلن رئيس الوزراء العراقي حينها حيدر العبادي، بل إن المدنيين لم يسلموا من قصف قوات التحالف بطريق الخطأ كما حدث في واقعة الموصل الجديدة في مارس/آذار الماضي التي نجم عنها مقتل أكثر من مئة مدني جراء استهداف الطائرات الأمريكية لإحدى العمارات السكنية، حيث قام «داعش» بتلغيمها ما تسبب في انهيارها على رؤوس المدنيين المقيمين فيها.ثالثا: سعت الحكومة العراقية لتوفير ممرات آمنة لخروج المدنيين من مناطق القتال والأحياء التي يسيطر عليها «داعش» إلى مناطق أكثر أمناً تسيطر عليها القوات العراقية، لكن المدنيين تعرضوا خلال عملية الهروب لقصف واستهداف عناصر «داعش» ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة منهم، ومن ينجح في الهروب يواجه المصير المجهول حيث المخيمات غير الكافية لاستقبالهم والنقص الشديد في الغذاء والدواء والمياه. كما أن «داعش» في محاولة لتخفيف الضغط عليه يقوم بقصف المدنيين في الأحياء التي تم تحريرها ويعود المدنيون إليها، إضافة لذلك تعرض بعض المدنيين الفارين من مناطق سيطرة «داعش» للعديد من المضايقات للتحقق من مدى علاقتهم بالتنظيم وتعاونهم معه، وهو ما أثار التساؤلات حول وجود بعض الانتهاكات. رابعا: أن معركة تحرير ما تبقى من الجانب الأيمن المتمثل في المدينة القديمة والمناطق المجاورة لها تعد الأخطر على الإطلاق في معركة الموصل ككل، لأنها تضم الجزء الأخير لعناصر التنظيم وتشمل معركته الأخيرة، ومن المتوقع أن يبدي فيها مقاومة شرسة حيث تتركز كل قواته ويستخدم كل أسلحته من السيارات المفخخة والقناصة وحفر الخنادق دفاعاً عن رمز خلافته المزعومة، ولذا من المتوقع أن تتفاقم معاناة المدنيين في هذه المنطقة، ما دفع الأمم المتحدة إلى التحذير من الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها هؤلاء، وتوقع نزوح أكثر من 200 ألف شخص منها، وهو ما يفرض تحديا كبيرا على القوات العراقية في أهمية الموازنة بين حسم المعركة نهائيا وبين الحفاظ على أرواح المدنيين وإخراجهم من تلك المناطق بأمان وتفادي الخسائر البشرية بينهم، ولذلك لجأت القوات العراقية إلى الاعتماد بشكل أكبر على الطائرات المسيرة لقصف عناصر التنظيم وقناصته واستخدام البلدوزر (الجرافة) ليتقدم القوات وتحييد السيارات المفخخة والألغام، وفي ذات الوقت توفير ممرات آمنة للمدنيين للخروج ومنع عناصر «داعش» من استهدافهم.خامسا: انتهاء معركة الموصل لا يعني مباشرة انتهاء معاناة المدنيين، حيث ستستمر بأشكال أخرى تتعلق بإعادتهم إلى مناطقهم وبيوتهم التي أصابها الدمار الكامل، إضافة إلى توفير الحاجيات الأساسية لمئات الآلاف منهم خاصة العالقين في المخيمات، وتجنب أية عمليات انتقامية ضد بعضهم، كما يبرز تحدي إعادة إعمار الأحياء المدمرة وعودة الحياة إلى طبيعتها في الموصل، إضافة إلى اعتماد تنظيم «داعش» بعد الهزيمة في الموصل على استراتيجية استهداف المدنيين، كما حدث في تفجيري الكرادة ببغداد الشهر الماضي، وبالتالي فإن مرحلة ما بعد «داعش» لا تقل خطورة عن معركة تحرير الموصل خاصة فيما يتعلق بالحفاظ على التركيبة الديمغرافية للموصل والتنوع الديني والطائفي والعرقي بين سكانها وتحقيق التعايش بينهم، وهو أمر قد يستغرق وقتا طويلا ويحتاج إلى رؤية سياسية شاملة تتعامل بشفافية وصراحة مع الأسباب التي أدت إلى صعود التنظيم في هذه المناطق ومنع ظهوره مرة أخرى. رغم قرب حسم معركة الموصل وتحريرها بشكل كامل من تنظيم «داعش» الإرهابي، إلا أن معاناة المدنيين تظل هي التكلفة الأعلى في هذه المعركة خاصة في محطتها النهائية في المدينة القديمة، وهو ما يفرض على الحكومة العراقية تحدياً كبيراً لتقليل هذه التكلفة.
مشاركة :