... هذا هو السؤال الذي يأخذ حيزا كبيرا من النقاش في بريطانيا بعد صدمة ثلاث هجمات إرهابية في أقل من ثلاثة أشهر، بلغ عدد ضحاياها 45 قتيلا و218 جريحا. فالبريطانيون عاشوا في أمان نسبي من جرائم الإرهاب الكبيرة منذ تفجيرات لندن عام 2005، وكل العمليات التي حدثت منذ التاريخ وحتى مارس (آذار) الماضي كانت متناثرة ومحدودة الأثر والضحايا. وحتى بعد حادثة الدهس في ويستمنستر، قلب الحياة السياسية والبرلمانية في بريطانيا، التي قتل فيها خمسة وجرح خمسون. لم يدر في خلد أحد أن عمليات أخرى ستحدث في وقت وجيز.غالبية الناس كانوا يشعرون بالاطمئنان على أساس أن نجاح أجهزة الأمن والاستخبارات البريطانية في إحباط كثير من المخططات الإرهابية، كان العامل الأساسي في حماية البلد الذي كان دائما على قائمة أهداف «القاعدة» و«داعش»، خصوصا مع الدور الذي لعبته بريطانيا في حربي أفغانستان والعراق، ومشاركتها في العمليات ضد «القاعدة» و«داعش» في عدة جبهات. لكن بعد التفجير الانتحاري في «مانشستر أرينا»، الذي أعقبته بعد أيام قليلة عملية الدهس والهجوم بالسكاكين على الناس في «لندن بريدج» وسوق «بورو» المجاور، دب القلق ووضع دور هذه الأجهزة تحت التمحيص، لأن منفذي الاعتداءات كانوا كلهم معروفين للسلطات بشكل أو آخر، وأسماؤهم موجودة ضمن الأشخاص المصنفين كمتطرفين، وبعضهم وضع تحت المراقبة أو التحقيق لفترة قبل أن يتراجع الاهتمام بهم، «لأنهم لم يعتبروا مصدر خطر إرهابي وشيك». وتصاعد الجدل بشكل أكبر، لأن البلد يعيش أجواء الانتخابات التي ستجرى اليوم، وتبارى السياسيون بالطبع في تداول الموضوع، وتسجيل النقاط بتوجيه الاتهامات خصوصا للحكومة ورئيستها تيريزا ماي التي كانت وزيرة للداخلية ست سنوات من 2010 وحتى العام الماضي، عندما أصبحت رئيسة للوزراء، وبالتالي يعتبرها خصومها مسؤولة عن الإخفاقات الأمنية وعن سياسة خفض عدد أفراد الشرطة.مسؤولو الشرطة والاستخبارات واجهوا الانتقادات بالإشارة إلى أنهم تمكنوا من إحباط 13 مخططا إرهابيا منذ عام 2013، لكنهم لا يملكون موارد غير محدودة لوضع كل من يشتبه بأنه متطرف تحت المراقبة المستمرة. فوفقا للتقارير المتداولة هناك نحو 20 ألف شخص ممن يعتبرون متشددين تسترعي آراؤهم الانتباه، لكن ليس لديهم نشاطات تجعل السلطات تعتبرهم مصدر خطر. الأجهزة الأمنية أكدت أن لديها في سجلات الرصد الأمني نحو 3 آلاف متطرف، تجري تحقيقات بشأن 500 منهم ممن يعتبرون مصدر خطر محتمل، لكن لا توجد أدلة كافية لمحاكمتهم، ومن بين هؤلاء هناك عدد ممن عادوا من مناطق القتال في سوريا والعراق.الواقع أن الأجهزة الأمنية مهما بلغت من كفاءة فإنها لا تستطيع أن تضمن منع الهجمات الإرهابية تماما. قد تنجح هذه الأجهزة في رصد الشبكات الإرهابية الكبيرة وإحباط العمليات التي يستغرق الإعداد لها فترة طويلة، لكن رصد «إرهابيي غرف النوم» أو «الذئاب المنفردة» الذين تغرر بهم دعايات التطرف في الإنترنت، وينفذون عمليات مثل دهس الناس عشوائيا في الشوارع، أو الاعتداء بأسلحة بدائية ورخيصة مثل السكاكين، يعتبر مسألة صعبة. الإجراءات الأمنية والاستخباراتية مهمة بلا شك في الحرب على الإرهاب، لكنها لن تشكل وحدها ورقة الوقاية الرئيسية. الأمر ذاته ينطبق على العمليات العسكرية ضد بؤر الإرهاب ومنظماته مثل «داعش» و«القاعدة»، فهي يمكن أن تقضي على أعداد من الإرهابيين وتدمر معسكراتهم، لكنها لن تقضي على كل بؤر ومفارخ التطرف التي تستولد مزيدا من الإرهابيين.القضاء على الإرهاب من جذوره يتطلب كما بات معروفا تعاونا دوليا وحربا على عدة جبهات لمواجهة الفكر والتمويل والتحريض والتجنيد. إضافة إلى كل ذلك فإنه بالنسبة لبلد مثل بريطانيا أو لدول غربية أخرى، فإن مسائل مثل مشاعر الغبن أو الإحساس بالتهميش وسط بعض الشباب المسلم الذي تربى وترعرع في الغرب، لا يمكن غض النظر عنها. فالجاليات المسلمة لديها دور وعليها مسؤولية في مواجهة المتطرفين، لكن هذا لا يعني إهمال قضايا التهميش أو التردد في مناقشة موضوع الاندماج بشكل صريح وجدي. فالدول الغربية تواجه اليوم ظاهرة إرهاب من شباب مسلم عاش وتعلم في ظل مفاهيم الغرب، لكنه انجرف وراء تيار التطرف، وأغوته دعايات شيوخ الإرهاب وتنظيماته.تيريزا ماي عرضت استراتيجية من أربع نقاط لدعم محاربة الإرهاب والتطرف، وذلك للرد على حملة الانتقادات الواسعة لحكومتها ولما يراه كثيرون فشلا أمنيا في منع وقوع هذه الهجمات. أغلب ما ورد في هذه الاستراتيجية لا خلاف عليه خصوصا فيما يتعلق بدعوة شركات الإنترنت للقيام بدور أكبر لحجب دعايات المتطرفين، أو تشديد القوانين لترحيل الإرهابيين وتقييد تحركات المصنفين كخطر محتمل. لكن هذه الاستراتيجية لكي تنجح لا بد أن تتم في إطار لا يجعلها تبدو وكأنها تضع كل المسلمين في سلة المشبوهين، وإلا سوف تكون قد سمحت للإرهابيين بإحداث شرخ خطير وكبير يولد المزيد من المتطرفين.
مشاركة :