تمثّل باكستان أحدث مثالٍ على انهيار علاقات إيران مع الدول الإسلامية الكبرى في عهد الرئيس حسن روحاني. والقوات الإيرانية واستخباراتها متّهمة بالتدخل في عدد كبير من هذه الدول.
وعقب قمة الرياض، يجد صانعو القرار في إسلام آباد أنفسهم للمرة الأولى أمام قرارات مهمة تتعلق بمستقبل العلاقة مع نظام آيات الله في إيران. فإما الاستمرار في السياسة الباكستانية في مداراة طهران وامتصاص آثار التدخلات الإيرانية، أو استغلال الفرصة التي توفرها العزلة الإقليمية والدولية لإقناع طهران بالكف عن التدخلات في باكستان.
المختلف في التجربة الباكستانية هو محاولات إسلام آباد الحثيثة لإبقاء شعرة معاوية في علاقتها مع طهران رغم الاستفزازات الإيرانية المتكررة خلال السنوات الثماني والثلاثين المنصرمة. فعلى رغم محاولات إسلام آباد التقرب من طهران، واجه الباكستانيون تعجرفاً متكرراً من الأجنحة المتشددة داخل إيران تمثّل في تظاهرات معادية لباكستان في طهران، وإحراق أعلام باكستانية في إحداها، واجتياح السفارة الباكستانية في طهران وتدمير محتوياتها في ٢٠٠٩. ولعبت إيران أيضاً دوراً رئيساً في المواجهة بين باكستان والوكالة الدولية للطاقة الذرية في ٢٠٠٤، نتج منها وضع العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان تحت الحراسة الجبرية.
في التاسع من أيار (مايو) استدعت باكستان السفير الإيراني، في سابقة ديبلوماسية في العلاقات بين البلدين، ونددت بشدة بتصريحات رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري الذي هدد قبل ذلك بيوم واحد بقصف الأراضي الباكستانية عقب مقتل عشرة حراس حدود إيرانيين على أيدي مقاتلي «جيش العدل»، المنظمة التي تتهم طهران الباكستانيين بدعمها. وعلى رغم رفض إسلام آباد هذه الاتهامات، تمسكت باكستان في ردها بإمساك العصا من الوسط، إذ قالت وزارة خارجيتها في بيان إن «هذه التصريحات تخالف روح الأخوة بين البلدين».
يدرك المسؤولون الباكستانيون أن جيش العدل تنظيم إيراني أعضاؤه مواطنون إيرانيون ينشطون داخل الأراضي الإيرانية وأن إيران تحاول أن تصدّر مشاكلها الداخلية إلى الخارج، إلا أنهم لا يريدون الرد على إيران علناً أملاً في أن تقدّر طهران محاولات باكستان ضبط النفس.
لكن المسألة أكبر بكثير من مجرد مناوشات حدودية معتادة في منطقة مثلث حدودي تكثير فيه عصابات التهريب ولا تتحكم فيه أيّ من الدول الثلاث: إيران وباكستان وأفغانستان. التصعيد الإيراني هذه المرة مختلف، ويتزامن مع ثلاثة تطورات مهمة تؤكد كلها أن التصعيد الإيراني مخطط له وجزء من تمدّد الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. التطور الأول هو انضمام باكستان إلى التحالف العسكري الإسلامي. الثاني هو قبض باكستان على خلية إرهابية هندية تعمل داخل إيران بموافقة الاستخبارات الإيرانية وتقوم بأعمال إرهابية ضد أهداف حيوية في باكستان. والتطور الثالث هو تصعيد هندي- أفغاني مشترك على حدود باكستان من جانبين (في كشمير شرقاً وأفغانستان غرباً)، ودخول إيران طرفاً بالتزامن في هذا التصعيد. وترجمت إيران تهديدات اللواء باقري أخيراً وأطلقت قواتها قذائف هاون إلى داخل باكستان في 27 أيار قتلت مواطناً باكستانياً داخل سيارته في إقليم بلوشستان.
التصعيد الثلاثي
هذا التصعيد الهندي- الأفغاني- الإيراني المتزامن على حدود باكستان من ثلاث جهات، هو ترجمة عملية للقاء القمة بين الدول الثلاث في ميناء جابهار الإيراني في 23 أيار 2016، عندما اجتمع روحاني ورئيس الوزراء الهندي ناريندر مودي والرئيس الأفغاني أشرف غني لتوقيع اتفاق لتشغيل الميناء الإيراني. وكان واضحاً أن إيران تعمدت عدم دعوة باكستان إلى لقاء القمة الذي زعم أن هدفه هو الربط الإقليمي بين دول المنطقة. واتضح وقتها أن إيران قررت التعاون مع الهند لإفشال مشروع الربط الإقليمي الباكستاني-الصيني الضخم في ميناء جوادر في بلوشستان.
والواقع أن مشكلة إيران مع باكستان تعود إلى 1979. فقد كان الشاه رضا بهلوي حليفاً استراتيجياً لباكستان. وكان والشاهبانو فرح ديبا كثيرَي التردد على إسلام آباد في عطل نهاية الأسبوع. وفتح الشاه قواعد سلاح الجو الإيراني ومخازن الذخيرة وإمدادات النفط لباكستان أثناء حربي ١٩٦٥ و١٩٧١ ضد الهند. على رغم كل ذلك كانت باكستان ربما أول دولة تعترف بحكومة آية الله الخميني عقب الانقلاب في طهران.
يبدو أن نظام آيات الله لم يغفر لباكستان علاقتها الوثيقة مع الشاه. وقد لا يعلم كثر أن سفارات باكستان حول العالم تولت مهمات القنصليات الإيرانية عقب الثورة. ولا تزال السفارة الباكستانية في واشنطن تتولى إصدار التأشيرات وجوازات السفر الإيرانية وتجديدها في ظل انقطاع العلاقات الديبلوماسية الأميركية- الإيرانية. كما أن إسلام آباد تبنت الحياد أثناء الحرب العراقية- الإيرانية على رغم أن كل حلفاء باكستان في المنطقة وخارجها كانوا يدعمون العراق.
إيران لم تحفظ لباكستان هذا الجميل. فكانت باكستان مع دول الخليج العربي من أوائل الدول التي استهدفها الحرس الثوري بغرض نشر الفتنة والحرب تحت مسمى «تصدير الثورة». وقائمة الأعمال العدائية التي قامت بها إيران ضد باكستان طويلة، نفّذها الحرس الثوري وقوات التعبئة (الباسيج).
في ١٩٩٦، رفضت طهران دعوة من إسلام آباد لدعم حكومة حركة «طالبان». وسعت باكستان بذلك إلى فرض الأمن في أفغانستان عبر حكومة حليفة في كابول بالتعاون مع دول الجوار المباشر، لكن إيران اعتذرت وفضلت دعم التحالف الشمالي مع الهند وروسيا. كما أن هناك في الملفات الأمنية الباكستانية أحداثاً مثل تجسس الحرس الثوري الإيراني على غواصات وفرقاطات باكستانية أثناء زياراتها الودية لموانئ إيرانية، واكتشف الباكستانيون ذلك بالصدفة عبر القنوات الاستخبارية من مصادر داخل الهند.
إلا أن أهم واقعتين في علاقات الطرفين حصلتا في 2004 و2016.
في 2004، بعدما اشتد الخناق حول البرنامج النووي الإيراني، واقتربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من فرض فرق تفتيش على طهران، تفتقت عقول المسؤولين الإيرانيين عن فكرة ذكية رفعت عنهم الضغوط الدولية. فقد سلمت إيران الوكالة الدولية وربما حتى الأميركيين، خرائط هندسية لأجهزة طرد مركزية طورتها باكستان وسلمتها لإيران في الثمانينات كخطوة بناء ثقة. لكن ثقة باكستان كانت في غير محلها ونتج من هذا التسريب الإيراني ضغط دولي غير مسبوق على إسلام آباد التي كانت وقتها تترنح تحت وطأة أزمة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر)، وكادت باكستان تضطر لأن تسمح لمحققين دوليين بالتحقيق مع عبد القدير خان، ما كان سيعني حتماً انكشاف القدرات النووية الباكستانية ووقوعها تحت مزيد من الضغوط الدولية الهادفة إلى احتواء القدرات النووية الباكستانية.
أما في آذار (مارس) ٢٠١٦، انكشفت تدخلات الحرس الثوري الإيراني داخل باكستان عندما قبضت إسلام آباد على شبكة إرهابية تابعة للهند كانت تعمل منذ سنوات في ميناء جابهار الإيراني وهدفها القيام بتفجيرات وأعمال القتل والتخريب في بلوشستان الباكستانية وكراتشي، عاصمة باكستان الاقتصادية. واللافت أن عملاء الاستخبارات الهنود الذين استخدموا الأراضي الإيرانية للقيام بعمليات إرهابية في باكستان كانوا أيضاً يغتالون الشيعة الباكستانيين، خصوصاً من قبيلة هزاره في كويتا، عاصمة بلوشستان. والحرس الثوري الإيراني كان يدرك ذلك إلا أنه سمح للاستخبارات الهندية بقتل الشيعة الباكستانيين لأن ذلك يخدم أهدافه في زيادة الاحتقان الطائفي في باكستان ويؤدي إلى تظاهرات وأعمال شغب تضعف الدولة، ومن جانب آخر تساعد هذه الاغتيالات في دفع المتردّدين من الشيعة الباكستانيين إلى أحضان الحرس الثوري ما يسهّل عمليات التجنيد في الميليشيات الإيرانية في سورية وغيرها.
كما أن باكستان قبضت على عميل باكستاني للاستخبارات الإيرانية يدعى عزير بلوش، واتهمته بالتعاون مع الشبكة التخريبية الهندية- الإيرانية والتجسس على المنشآت والأهداف العسكرية الباكستانية في كراتشي، المدينة التي تمثل عصب الحياة الاقتصادية الباكستانية. وساعدت السلطات الإماراتية في القبض على بلوش في دبي قادماً من مسقط، في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2014، مستخدماً جواز سفر إيرانياً على رغم كونه باكستاني الجنسية.
مواجهة
قائد الجيش الباكستاني وقتها الجنرال راحيل شريف الذي يقود اليوم التحالف العسكري الإسلامي، واجه الرئيس حسن روحاني بالتعاون الاستخباراتي الإيراني- الهندي ضد باكستان. حصل هذا في لقاء بين الرجلين في إسلام آباد في 26 آذار (مارس) 2016. وفي اليوم التالي نفى روحاني بيان الجيش الباكستاني، مطلقاً أزمة سياسية وعسكرية تستمر إلى اليوم. ما قام به الجنرال راحيل شريف كان أمراً تاريخياً، إذ لم تعتد حكومة الملالي في طهران أن ترى حزماً من المسؤولين الباكستانيين في تعاملاتهم معها.
وتطالب إسلام آباد الإيرانيين راهناً بتسليم عنصرين من الاستخبارات الهندية مقيمين في إيران ومتورطين في الإرهاب داخل باكستان، بالإضافة إلى طلب تسليم إرهابيٍ تابع للحرس الثوري الإيراني متورط في اغتيال الديبلوماسي السعودي حسن القحطاني الذي اغتيل في كراتشي في 16 أيار 2011. ونشر بيان وقتها تبنى فيه تنظيم «القاعدة» العملية، إلا أن السلطات الباكستانية كشفت لاحقاً ضلوع الحرس الثوري. ولا يزال القاتل متوارياً داخل الأراضي الإيرانية.
اللواء باقري الذي أطلق تهديدات ضد باكستان يعتبر خبيراً في التعامل مع قضايا بلوشستان وكردستان. المرشد الأعلى خامنئي عيّن اللواء باقــري رئيساً لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية في حزيران (يونيو) 2016، عقب كشف باكستان في آذار 2016 الشبكة الإيرانية - الهندية المتمركزة في إقليم سيستان- بلوشستان جنوب غربي إيران. وجاء التعــيين أيضاً بعد لقاء القمــة في ميناء جابهار، هذه القمة التي بلورت التوجهات المقبلة لسياسة إيـران إزاء باكستان.
السياسة الإيرانية إزاء باكستان واضحة اليوم، يقابلها تردد وحذر في باكستان. وتخشى إسلام آباد أن تفتعل طهران احتقاناً وأعمال عنف طائفية في باكستان مستخدمة الشيعة الباكستانيين الذين جندتهم خلال السنوات الماضية من أجل الضغط على إسلام آباد لتغيير سياساتها. وبرزت نيات إيران بوضوح عندما تحرك السفير الإيراني في إسلام آباد مهدي هنر دوست محاولاً تعبئة الرأي العام الباكستاني ضد قرار الحكومة الباكستانية الانضمام إلى التحالف العسكري الإسلامي وتعيين قائد الجيش السابق قائداً لهذا التحالف.
باكستان لا تمثل تهديداً لمصالح إيران في شكل مباشر، إلا أن طهران تراها كذلك في ظل السياسة الإيرانية التي تحاول مد نفوذها في المنطقة وإضعاف الدول العربية والإسلامية الرئيسة من الداخل.
* صحافي وباحث في «معهد دراسات باكستان في القرن الحادي والعشرين». مقدم برنامج سياسي في قناة «نيو تي في» الباكستانية.