قطع الهجوم الذي تبناه داعش على مجلس الشورى الإيراني، ومرقد الإمام الخميني، في طهران، سلسلة إشارات التعجب التي تواصلت عن سر الهدنة المديدة بين طهران وتنظيم داعش المتفق على طبيعته الإرهابية في الشرق والغرب. الآن فقط، امتلكت إيران الدليل على أنها ضحية لداعش بالأصالة، خلافاً للتحليلات التي دأبت على الربط بين الدور الإيراني في سوريا، وبين دور التنظيم فيها، وفسرت ذلك كونه علاقة وظيفية بين الطرفين تساهم في تأجيج نيران الحرب في سوريا، قبل حدوث الاحتمالات القصوى، حين يتمكن النظام الأسدي من استيعاب المعارضات السورية، أو حين تتمكن هذه المعارضات من هزيمة النظام، أو التوافق معه. في الحقيقة، الاتفاق على استمرار شر التنظيم مصلحة لكل المتدخلين في سوريا، فشرُّ داعش لم يدفع حتى اليوم إلى العمل والتضامن للحد من هذا الشر. ما يدل على ذلك هذه الأيام هو تواقت تحرك ذئاب داعش المنفردة في أوروبا، وطهران، معاً، حتى لو دل ذلك جزئياً على أزمة في التنظيم حين اشتدت المعركة على وجوده، فبادر إلى الهجوم! ومصطلح "الذئاب المنفردة" غير محدد المصدر، أو عائدية "براءة النحت"، لا يختلف كثيراً عن مصطلح "الخلايا النائمة" المستخدم في أدبيات الباحثين في "القاعدة". هذا يعني التمييز، شكلياً، ما بين تكتيك كل من التنظيمين، فالذئب لا يصطاد وحيداً، كما أن الخلايا عندما تنهض من نومها تنفذ خطة الخلية المشكلة من عدد أفراد كبير لا يعرفون بعضهم جميعاً، وفق التشكيل العنقودي لتنظيم القاعدة، وبالتالي لا يوجد سبب جوهري للتمييز بين استراتيجيتي داعش والقاعدة، خاصة أنهما ولدا من بطن واحد، دون أن يكون هذا البطن بستاناً. في طهران، استطاع داعش، الذي تبنى الهجوم، اختراق ثلاثة أسوار، قبل أن يصل إلى قلب مبنى مجلس الشورى، في أكبر اختراق لاحتياطات المخابرات الإيرانية المعتزة بقوتها الأسطورية، على غرار الموساد الإسرائيلي! وهذه النقطة تثير شهوة المقارنة بين "الهجمات الإرهابية" التي يتعرض لها النظام الأسدي في مناطق سيطرته، وبين ما استجد على النظام الإيراني، في هذا الهجوم غير المسبوق على رمزين مهمين في دولة الولي الفقيه، في مجلس الشورى، ومرقد الإمام الخميني. فتراث النظام السوري مرتبط عضوياً بما تفعله مخابراته العريقة في البروباغندا، يتبعها التهريج الذي تنعق به وسائل إعلامه غير الموصوفة بالغباء والاستتباع. والنظام السوري دأب على فبركة قصص من هذا النوع، بطريقة استباقية، أو برد فعل، كلما كان في حاجة لتسويق سلطته كهدف للإرهاب في كل واقعة. وأشهر هذه الحالات ما نذكره عقب اتهام نظام بشار الأسد باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، حيث نشطت المخابرات السورية في مداهمة "أوكار الإرهاب" في ريف دمشق، في محاولة لترقيع قصة "أبو عدس" التي اختلقها هو نفسه. واستمر النظام في فبركة عمليات انتحارية في حمص، ودمشق، في ما بعد 2011، متأكداً من حقيقة أن إطلاقه سراح معتقلين إسلاميين من سجن صيدنايا، في بداية صيف 2011، ستكون منسجمة مع واقع تأكده من أن هؤلاء سيشكلون كتائب مسلحة ستكون لها اليد الطولى في اختطاف الثورة السورية من أيدي السوريين الذين أطلقوها. النظام الإيراني أفاق متأخراً على استخدام هذا التكتيك القديم لحليفه النظام الأسدي. ولعل خبراء الحليف من أشاروا على مخابرات الملالي باختيار هذا التوقيت، تزامناً مع اقتراب خطوط القتال بينهما في البادية المنتمية إلى "سوريا غير المفيدة"، بعد مضي سنوات من التهادن بين النظام الأسدي وميليشيات إيران من جهة، وبين نظام داعش من جهة أخرى. وكما وجدت تركيا نفسها وجهاً لوجه أمام داعش، بعد سنوات من التهادن، وبغض النظر عن حركة التنظيم على طرفي الحدود، أصبحت حقيقة التصادم بين إيران والتنظيم مسألة وقت. ولعل إيران بتمثيل هذين الهجومين كانت أقرب إلى إعلان بدء المواجهة مع التنظيم في سوريا من وضع نفسها مجرد ضحية لداعش الذي يؤدي وظيفته في كل مرة بكل اقتدار، كائناً من كان المستهدف، وفي أي مكان، وأي زمان. وحتى لو كان داعش صنيعة نفسه، ولا يد للمخابرات الأسدية، أو الصدَّامية، أو التركية، أو الأميركية،... إلخ، في صنعه، أو تقويته، تدرك كل القوى التي تعلن عداءها له، أن المواجهة مع التنظيم لابد منها، كيف إذا كانت إحدى هذه المخابرات، أو أكثر، تمسك بجهاز التحكم بداعش! هجمتا ذئاب داعش في طهران أنتجتا أثراً محدوداً أمنياً، وفي نطاق معقول من حيث تحمل النظام الإيراني للخسائر، لكن استثمار الارتدادات النفسية، والإعلامية، للحالة، سيكون كبيراً، محلياً بتأكيد تبرير التدخل في سوريا، وزيادة زخم تواجد الحرس الثوري هناك، إضافة إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة من تبادل الأدوار الوظيفي، دون استبعاد أن تكون الخطوة محاولة من طهران للتغزل بواشنطن، وإن كان ما بين العاصمتين ما صنع الحداد، أو أكثر. وأمام انقطاع حبل الوداد الأميركي الإيراني، ليس أمام إيران سوى مغازلة روسيا بواسطة النظام الأسدي، أو بالأصالة عن نفسها. فكلا النظام الأسدي وإيران لا يجرؤان على ملاحقة داعش في البادية دون تغطية من الطيران الروسي، وبالاستناد إلى سيطرة النظام على جزء من مدينة ديرالزور، وتدمر، وبعض النقاط في البادية. لكن أميركا وروسيا تحترمان حتى اليوم قواعد اللعبة في هذه المنطقة. وحتى لو أخطأت روسيا في قصف مواقع للجيش الحر مدعية أنها أصابت رتلاً لداعش، وهو ما حدث قبل أيام بواسطة صواريخ كاليبر الروسية، ستجد التفهم المطلوب من أميركا، ولن تغامر إحداهما في إزعاج الأخرى والتمادي في أي مغامرة، ما يعني أن أي جرأة يقوم بها النظام الأسدي ستكون محسوبة على قاعدة تفاهم روسي أميركي، وليس من دونه، حيث يحق لروسيا "التمادي" في قصف داعش، أو ادعاء ذلك، كما يحق لأميركا الأمر نفسه في مناطق النفوذ المتفق على أنها من ملاك روسيا في سوريا. ولأن احتمال الصدام بين واشنطن وموسكو غير مرجح، وحالة الفصل بين مناطق نفوذ كل منهما لا يمكن أن تستمر طويلاً في حالة ثبات، فالمتوقع أن تلعب كل من إيران وداعش دورهما في إعادة بعثرة الأوراق، داعش وظيفياً، وإيران عبر حجة النظام الأسدي في ممارسة "سلطته السيادية" على أراضي الجمهورية العربية السورية. وللتذكير، نشأ تنظيم القاعدة بعد سنوات من الدعم الأميركي العربي لظاهرة المجاهدين العرب في أفغانستان، قبل أن يعلن كلا الطرفين انقلابه على الآخر، لكن دون أن يتوقف كل من الطرفين في لعب دوره الوظيفي تجاه الآخر، كعدو على الأقل. وعندما هدأت المعركة المباشرة بينهما، خاصة بعد قتل المخابرات الأميركية أسامة بن لادن، وعدم ملء أيمن الظواهري مكان الزعيم المؤسس باقتدار، قطفت إيران سقط ثمار القاعدة، فاستضافت فلول ما تبقى من التنظيم انتظاراً لتوظيف هؤلاء في لحظة تراها مناسبة. في ما يتعلق بذئاب البغدادي، لا تزال الروابط غير مؤكدة بين داعش والقاعدة، أو بين التنظيم وإيران، حتى لو كان للتنظيمين الأيديولوجيا السلفية نفسها. وحتى بعد أن أدى داعش دور عمره في فيلم الاستيلاء على الموصل في يونيو/ حزيران قبل عامين، ووفر لإيران كل الحجج لتشكيل الحشد الشعبي في العراق. لكن المؤكد أن داعش لايزال يمتلك شعبية كبيرة في أوساط المخابرات العالمية، وهو أمين على استمرار الاستعراض حتى ما بعد معركة الموصل، ومعركة الرقة، ومعركة البادية، بل ومعركة ديرالزور. علي العائد كاتب وصحافي سوري
مشاركة :