هناك عبارة صحيحة يمكنها أن تُفهم فهمًا خاطئًا أحيانًا، وتطبّق تطبيقًا خاطئًا أحيانًا أخرى، تلكم هي قولنا ( لو كان خيرًا لسبقونا إليه). وهي قاعدة لإظهار الاتباع, يُحجّر بها كثير من الناس ما قد يكون فيه متسعًا للأمة, ولكن ليس هذا هو ما أريد طرحه هنا, وإنما سنأخذ منها جزئية تتعلق بزماننا ومكاننا, وهي قطرة من بحر مما سلكنا فيه مسلك النظر إلى الحروف والألفاظ, دون النظر إلى ما تحويه الكلمة وتقتضيه من المعاني المقاصدية. كنت قبل أعوام قد طرحت تساؤلات عن "صدقة الفطر" وقوبلت كالعادة, فأناس يعلمون بأحقية ما نقول, ولكنهم لا يقدرون على مقارعة رأي الآخر, وآخرون يستندون برأيهم على غلبة الحال, وكأن الحق يعرف بكثرة من يعمل به، ويبدو أن التمسك بحرفية النص، أو مخالفته حسب الظروف أصل متين في التوجه الفكري الفقهي لعامة من تصدر توجيه الناس في أمور دينهم, وهذا المسلك قد أرهق الكثيرين في نقده ومناقشته، وليس الوقت ملائمًأ لنقاشه, ولكني أحاول أن أسلط الضوء على "زكاة الفطر" مقتبسًا من طريقة الفاروق عمر رضي الله عنه في التجديد في الوسائل، ولن أطيل بذكر أمثلة من ذلك سوى ما اتفق عليه كل السلفيين من أن عمر قد مصر الأمصار وأنشأ الدواوين، وهذا بحد ذاته كاف للبدء منه ومن نحوه كثير, ما بالنا لا نراعي التطور الحضاري والعمراني والسكاني، في زكاة الفطر التي بدا فيها العنت واضحًا على الفقراء والمساكين، في عينها، ووقتها، وطريقة تسليمها واستلامها.. كنقطة انطلاق للتغيير المفسر لمعاني ومقاصد الأحاديث والآثار في زكاة الفطر بما يجمع بين الرأيين؛ رأي إخراج النقود, ورأي التمسك بلفظ الطعام, ويحافظ على الربط بين الماضي والحاضر، فإنه من الممكن التيسير على الخلق في ذلك، والقضاء على الطرق العشوائية, والمناظر المعاكسة للتطور العمراني والسكاني العصري, في طريقة العرض والبيع والتوزيع، ومنع الكذب والتدليس، وأيضا سد طرق التحايل لجمع تبرعات غير مضمونة التصدير، فيمكننا دفعها نقودًا لجهةٍ توكل لها المهمة رسميًا, فتعطي لهذا حاجته من النقود, وتوصل لذاك حاجته من الطعام, وأيضًا نكون استفدنا من آراء الفقهاء والأئمة, الذين رفعوا الحرج عن أتباعهم بفهمهم, أنه ليس الطعام مقصودًا بذاته, وإنما المقصود الأعظم هو إغناء الفقير, وتقديم "الأنفع له على النافع". وليس ذلك في النظر بعيدًا عن الصواب, فها هي الزكاة, ركن من أركان الإسلام, انتقل الناس فيها من "الأنفع إلى النافع" فقد كان الذهب يخرج زكاة للذهب والفضة تخرج زكاة للفضة, فلو نظرنا إلى الأنفع لأصناف الزكاة لاشك أنه بقاء الأصل, وإخراج الذهب والفضة عينًا, لكن فيه مشقة عامة, وأيضًا مجانبة لتطور الاقتصاد الذي اعتمد على العملات الورقية بديلا عن النقدين, فهل قال أحد من الفقهاء والأئمة, لا يجوز إخراج الأوراق بديلاً عن الذهب؟ الجواب لا, فما بالنا لا نراعي التطور الحضاري والعمراني والسكاني, في زكاة الفطر التي بدا فيها العنت واضحًا على الفقراء والمساكين, في عينها, ووقتها, وطريقة تسليمها واستلامها, فلا نحن نظرنا لتجويز العلماء في إخراجها أثناء الشهر, ولا نحن ألقينا بالاً لمن أجاز إخراجها نقودا, مراعاة لنفع الفقير, وحاجة المسكين, بل نظرنا إليها نظرة العبادة الشكلية وكأن الحكمة من فرضها خافية علينا خفاء ليلة القدر, وقد قال النبي صلى الله عليه وآله «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم» فهاهي الحكمة واضحة وضوح الشمس, لكن أبينا إلا أن يطوفوا بما أعطيناهم من أرز وحب, فهذا ليبيعه بخسًا بنقود تغنيه, وذاك لشراء ما يكمل به نفع الطعام, و...و...و الخ فأين الفقهاء من هذا؟ وأين الجهات المنظمة, التي تستطيع وضع آلية للاستلام والتسليم, بما ينفع المساكين, ويتوافق مع الزمان والمكان؟. هذا، والله من وراء القصد.
مشاركة :