انتصفت أيام وليالي شهر رمضان المبارك، ودونا في الذاكرة موسماً مميزاً، بعطاء إنساني، وفال جميل، لنجدد معه حياتنا، وننهل من دروسه، وندرك من خلاله المعنى الحقيقي للصيام، ومضامين حكاياته، ومدوناته التي وثقها الرواة، والمؤرخين، والكتاب؛ على مدى عقود متتابعة، ليكون هذا الشهر مدرسة مهمة للمعاني الخالدة، والقيم النبيلة، التي تحمل في طياتها؛ الشعور بهم الناس، ومعاناة البشر من حولنا. فتستوقفك حقيقة «حكايات رمضان» المعتقة.. تلك التي بنت لنا قاموسا متكاملا من معاني الحياة الطيبة، والرشد في العمل والمعاملة، فكانت قصص التاريخ تتوالى بنكهة إنسانية معبرة، يرويها الكبار للصغار، ومن ثم تنتقل من جيل إلى آخر بأسلوب شيق، ومقولات جميلة. إلا أن ما يلاحظ على هذه الحكايات الرمضانية في هذه الأيام أنها إلى حد ما توقفت في مفهومها القديم، وبصورتها السابقة؛ التي كانت تعتمد على الخطاب الفردي، ومنقولات التجارب الشخصية التي تميل إلى العفوية، رغم ما يكتنفها من غرائبية، وخيال. فكانت تهدف إلى تحسين الصورة الحكائية، وتجميلها، لتخرج من كونها حكاية مألوفة وعادية إلى سياق لفضي طريف ومقبول. فـ»الحكواتي» كان له دور بالغ في إيصال القصة الشعبية، أو الطرفة الاجتماعية بأسلوب شيق، من أجل أن تحفز المستمع، وتستميله نحو مضان النصيحة التي تستبطن عادة مثل هذه الحكايات.. كتعليم القيم النبيلة، والأمانة، والصدق، والشجاعة، وحسن الخلق، لاسيما وأن من ينصت لهؤلاء هم في مستويين متدرجين، الأول موجها للصغار الذين يبوح لهم «الحكواتي» - عادة - بقصص لا تخلو من بساطة وخيال وغرائبية، لكي تصل إلى أذهانهم. أما المستوى الثاني لمتلقيها؛ فإنه يتمثل بالكبار الذين يصوغ لهم «الحكاء» -عادة- قصصا وحكايات وطرفاً بأسلوب شيق، لكن هذا الطرح لا يخلو من الجدة، والرمز المبطن، والإيحاء المتقن الذي يرقى عادة إلى مستوى تفكيرهم. ففي هذه الليالي الرمضانية ومع تطور الزمن وتحولاته أتت بعد «الحكواتي» أو «الحكاء» تجارب أخرى في مجال الخطاب الشفاهي عبر «الإذاعة».. تلك الوسيلة الجديدة والمذهلة - آنذاك - لتستلم الدور من الحكواتي الذي بات يلوذ بصمته، أو يوظف موهبته عبر أثير الإذاعة، لتكمل هذه الوسيلة الفريدة جانبا من هذا الخطاب الذي ينقل للمستمع أدق التفاصيل؛ بأسلوب أكثر حرفية في الطرح، وأشمل من حيث المواضيع، من أجل أن تصل إلى الناس بسهولة ويسر. ليأتي بعد هذه التجربة مشروع الكتابة الأدبية لدى بعض الكتاب الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تجميل هذه الليالي بالكثير من المؤلفات والسير والتراجم والقصص والحكايات الشيقة، ليتطور الخطاب التواصلي على نحو البرامج التلفزيونية، حيث سعى إلى بث رسالة الحكاية صوتا وصورة، إلا أنها فقدت بريقها وحضورها، فباتت محايدة ونادرة الحضور.. وربما ازداد غيابها هذه الأيام مع هجمة العمل الاليكتروني، وتدفق المعلومات، وتنوع وسائل الترفيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فباتت هذه الحكايات والطرف والملح والألغاز في مهب رياح التغيير.
مشاركة :