إرهابيو «داعش» و «النصرة» لا هُم مرضى نفسيّون ولا مختلّون عقلياً

  • 6/13/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

الأرجح أننا لا نفعل شيئاً سوى شراء الراحة السهلة (والغبيّة أيضاً) للعقل والفكر، بأن نعلّق ظاهرة معقّدة كالإرهاب الإسلاموي التكفيري على مشجب الجنون والاختلال النفسي والعقلي. ليس ذلك الإرهاب ظاهرة فرديّة، بل أن الظواهر الفرديّة فيه (على غرار «الذئاب المتوّحدة» و «الخلايا النائمة») لا تجد تفسيراً لها في السيكولوجيّة الفرديّة، بل في السياق السياسي- الاجتماعي الواسع لظاهرة الإرهاب الإسلاموي المعاصر. هناك سيول من الدراسات الغربيّة في ذلك الصدد، وهي تدفّقت بغزارة بعد ضربات 11/9، حاول بعضها تفسير الإرهاب بالتركيز على أشخاصه والأفراد المنغمسين فيه. في المحصلة، لم تستطع تلك المقاربة إعطاء تفسير يكون مقنعاً علميّاً في شأن ظهور عدد من الأشخاص في مجتمع/ مجتمعات معينة يمارسون إرهاباً يبرّر نفسه دوماً بقضايا عامة وواسعة في تلك المجتمعات. ولو كانت القضايا العامة للشعوب هي المصنع الذي يلد الإرهاب، لظهر إرهاب متصل بالمجاعات والأوبئة والفقر والتصحر، في دول ما تحت الصحراء الأفريقية ومجموعة من بلدان القارة السمراء وأميركا الجنوبيّة وغيرها. واستطراداً، لتغيّرت راياته أيضاً، بمعنى شعاراته ومطالبه وخطابه السياسي وغيرها. ومن المستطاع الحصول على عرض تفصيلي رصين عن فشل مقاربة الإرهاب من وجه سيكولوجيّة للفرد (أو لمجموعة معزولة نسبيّاً من الأفراد) في كتاب «الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة» الذي صدر في 2017 ضمن سلسلة «ترجمان» عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، وترجمه عن الإنكليزيّة الزميل فادي ملحم. (أنظر «الحياة» في 23 أيار/مايو 2017). هل يعني ذلك أنه لا توجد مقاربة سيكولوجيّة للإرهاب، خصوصاً الإسلاموي التكفيري المعاصر؟ الأرجح أن السؤال يفتح فرصة للتفكير النقدي الرصين، بمعنى عدم الانتقال من النقيض إلى النقيض. واستطراداً، إذا كان الإرهاب لا يفسّر بالعناصر السيكولوجيّة للأفراد، فإن ذلك لا يعني حتماً وبصورة ميكانيكيّة فجّة عدم وجود بعد نفسي (أو أبعاد نفسيّة متشابكة) في الإرهاب، خصوصاً في الأفراد الذين يمارسونه وينخرطون فيه. كيف نفهم تكرر وقائع في ضربات إرهاب معيّنة، بل تكاد تكون استنساخاً بعضها عن بعض: سائق الشاحنة الذي اجتاح البشر في «جادة الإنكليز» في مدينة نيس الفرنسيّة، ومنفذ الاعتداء على البرلمان الإنكليزي في «جسر ويستمنستر»، ومفجر صغار الشباب المحتفين بغناء أريانا غراندي في مانشستر، والقائمة طويلة... ألم يُقَل في تلك السلسلة كلها أنّ أفرادها لوحظ عليهم أنّهم «تطرّفوا» في فترة ما سبقت تنفيذهم تلك الاعتداءات البربريّة؟ ألا يكفي ذلك لإعطاء مساحة وإن صغيرة للتفكير في وجود أبعاد نفسيّة وسيكولوجيّة في تلك الظاهرة، يجدر التأمل فيها مليّاً؟   لتغرب شمس الجنون لنبدأ بالأبسط: الإرهابيّون ليسوا مجانين، بل لم يكونوا كذلك أبداً، أقلّه في ظواهر الإرهاب التي دُرست بالأساليب المعروفة في علم النفس. هناك مثل ما يبدو ساطعاً: مجموعة «بادر- ماينهوف» اليساريّة (عُرِفَت لاحقاً باسم «الجيش الأحمر») التي مارست عنفاً سياسيّاً رأته نضالاً طبقيّاً، لكنه كان إرهاباً موصوفاً، شمل مقتل ما يزيد على 30 شخصاً، خصوصاً في العام 1977، معظمهم لم يكن مقصوداً بشخصه، بل اعتبر ثمناً جانبيّاً في سياق قضية عامة. وفي مطلع التسعينات من القرن العشرين، ألقي القبض على تلك المجموعة، بل مكثت في السجن سنوات، فتمكّن علماء نفس ألمان وغربيّون من إجراء دراسات نفسيّة واسعة ومتنوّعة المناهج. النتيجة؟ ليسوا مجانين، ولا هم بمختلين عقليّاً. ربما عانى بعضهم ضغوطاً نفسيّة قاسيّة في مرحلة ما من حياتهم، خصوصاً الطفولة، لكنها لا تكفي لتفسير ممارستهم الإرهاب وإلا لكان العالم مملوءاً بملايين الإرهابيّين! ولفت بعض من درسوا أفراد مجموعة «بادر- ماينهوف» إلى إنّ الإرهاب نشاط يستند إلى مجموعة، ما يعني أن الفهم السيكولوجي له يتعزّز عبر مقاربات كالتفكير الجماعي أو نظرية الهويّة الاجتماعيّة، اللتين تركّزان على فاعليّة الجماعيّات بأكثر من النظر في قادة الإرهاب أنفسهم. في العادة، لا يكون الإرهابيّون مجانين أو مختلين عقليّاً، على رغم أنّ معتقداتهم غالباً ما تكون غير عادية وخارجة عن التيار العام. ولعلها فرصة للفت النظر إلى ملمح مختلف في ظاهرة الإرهاب الإسلاموي التكفيري، وهو أن أفراده ربما تشاركوا معتقدات كثيرة مع تيار عام واسع في مجتمعات عربيّة/إسلاميّة عدة. ومرّة اخرى، أفرد كتاب «الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة» صفحات كثيرة لمناقشة ذلك البعد في ظاهرة الإرهاب الإسلاموي. في سياق مشابِه، أجريت دراسات واسعة عن التركيب النفسي لبعض قادة مجموعات إرهابيّة، كشوكو أساهارا وأسامة بن لادن وتيموثي ماكفاي وغيرهم. وتولّى أساهارا قيادة مجموعة «آوم شينريكيو» اليابانيّة الدينيّة التي شنّت هجمات إرهابيّة في مترو أنفاق طوكيو في العام 1995، مستخدمة غاز الـ «سارين» المصنّف ضمن أسلحة الدمار الشامل، إيماناً منها باقتراب يوم القيامة ونهاية العالم. والأرجح أن أسامة بن لادن، المؤسّس الذائع الصيت لتنظيم «القاعدة»، غني عن التعريف في البلاد العربية- الإسلاميّة. وفي 1995، قاد الأميركي من أصل إرلندي تيموثي ماكفاي تفجيرات إرهابيّة طاولت مجمعات حكوميّة في مدينة أوكلاهوما سيتي استخدم فيها 2.2 طن من المتفجرات التي صنعها بنفسه، فقتل قرابة 170 شخصاً لا علاقة لهم بـ «القضيّة» التي برّر بها عمله: الرئيس بيل كلينتون عميل في مؤامرة دوليّة تستهدف السيطرة على الولايات المتحدة! تكراراً، لم تعثر الدراسات السيكولوجيّة (ضمن المدة التي تمكن فيها علماء النفس من التعامل مع أولئك القادة الإرهابيّين) على شيء في السيكولوجيا الفردية يفسر الانخراط في تلك المروحة المتنوّعة من الإرهاب.

مشاركة :