لن ينام العراقيون تلك الليلة

  • 6/8/2014
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي في الغالب لن تسنح لأحد فرصة النوم هانئاً في الليلة التي تسبق تقسيم العراق. سيتقلب اصحاب القرار في أسرّتهم طويلاً. انهاء دولة من الوجود تحت بند «القتل الرحيم» سيقض مضاجع الجميع، الجيران والقوى العظمى والدول التي تنتظر دورها على لائحة التقسيم، وقبل ذلك شعب هذه الدولة الذي سيصبح غداً شعوباً ودولاً، تنصب حدوداً، وتسك نقوداً، وتطبع بطاقات هوية، وتخوض حروباً جديدة للدفاع عن هذه البطاقات. سيردد الشيعة والسنّة والأكراد عبارات متشابهة: «لم تعد هناك فرصة للتعايش معهم، بذلنا كل الجهود للحفاظ على العراق، لكن الآخرين دفعوا الأمور الى هذه النهاية». لم تعترف طهران بسهولة بالدولة التي رسمتها حدود سايكس بيكو بداية القرن العشرين، حتى تركيا لم تعترف بها. كان على عراق فيصل بن الحسين ان يشق طريقاً صعباً لنيل شرعية الدولة من جارين، اعتبرا على امتداد خمسة قرون ان بلاد النهرين ليست اكثر من خط تماس عريض بين متحاربين، تماس لاستعراض القوة، ولاستنهاض المذاهب، وتبادل الأدوار. ستعتبر طهران ان التقسيم يمنحها فرصة استعادة الجنوب الذي كان مطمعاً لتوسيع حدود الدولة الصفوية والقاجارية والبهلوية، قبل ان يغيّر الانكليز معادلات اللعبة، ويعيدها الأميركيون الى سياقها. ربما يقطع التقسيم حلم مد حدود ولاية الفقيه الى البحر المتوسط، لكنه يمنحها كنوز سومر ونفطها! لن تسعى تركيا الى استعادة الموصل وكركوك، فلم تكن، وهي تعيد انتاج مطالباتها بالمدينتين كلما سنحت الفرصة، تقصد ضمهما، فالأمر لا يتعدى محيط النفوذ، الملعب، والحديقة الخلفية، «البعد الاستراتيجي» الذي انشغل داوود اوغلو لسنوات في الترويج له. تعترف واشنطن بأخطائها ولكن ليس على طريقة جلد الذات، فالأخطاء حتى المدمرة، لا تعدو كونها «سوء فهم». هكذا حدث عندما أُبيد الهنود الحمر، وعندما أُعدمت هيروشيما وناكازاكي، وعندما احتُل العراق. التقسيم ليس اكثر من عرض جانبي، «نأسف له، لكننا ندعمه، وسنواصل جهودنا لضمان الديموقراطية في الدول الجديدة التي تتشكل غداً في الشرق الأوسط». أوروبا غارقة في تناقضاتها، هي لا تنام كثيراً في الاساس، تحمّلت رعونة اميركا غرباً، وعدائية روسيا شرقاً، تدرك في قرارة نفسها ان الديموقراطية لن تنجح في حمايتها من مصير مشابه لمصير العراق ذات يوم. سينام العرب وحدهم، ناموا أعوام 1920 و1958 و 1968و 1980و 1991و2003، وغطّوا في سبات لقرون سبقت هذه التواريخ. سينبري كتّاب الحكّام لتبرير الواقعة بلغة جنائزية: «المؤامرات اكبر من قدرتنا على الاحتمال، انهاء العراق قرار خارجي لم يُستشر العرب به، لدينا من المشاكل والمخاوف ما يكفي، ولا مكان للحزن على بلد عربي يمحى من الخريطة». يقرر العرب انهم بذلوا قصارى جهودهم لإنقاذ العراق، قرأوا شعراً جيداً ونظّموا مؤتمرات باهظة للدفاع عن القومية العربية: «لا فائدة، انه بلد الشقاق، وربما يكون التقسيم خياراً مريحاً للجميع!». وحدهم العراقيون سيقضون تلك الليلة الطويلة يحاربون طواحين الهواء، لن يكون ثمة متسع للبكاء على التاريخ، فلا قسمة غرماء ستستوعب ارث بابل، لن ينجحوا في توزيع مسكوكات أكد وأشور، لا وقت للحديث عن بغداد العباسية وحق ملكية شعر المتنبي، سيرددون بهوس عبارة واحدة: «ماذا سيحدث غداً؟» اعتادوا على الانكار، وجُبلوا على إهمال الأسئلة الأساسية مثل «وماذا سيحدث بعد غد!». يُقنع زعماء الشيعة رعاياهم بأن نفط البصرة يجب ألاّ يُمنح لغير الشيعة، فعلوا ذلك مراراً في السنوات التي سبقت هذه الليلة: «امام الدولة الشيعية المستقلة مستقبل. انتم على اعتاب صنع اعظم دولة في التاريخ»، مهلاً... ألم يردد صدام حسين هذه الجملة قبل بضعة عقود؟ لا يهم من قالها. «المهم انها ستتحقق اخيراً، بجهود المدافعين عن الإسلام الحقيقي». «الإسلام الحقيقي!»، عبارة يتداولها بإفراط ابناء الدولة السنية المجاورة ايضاً، او ما سيكون بعد ساعات دولة وينشد زعماؤهم بحماسة مفرطة: «سنتخلص اخيراً من ظلم الشيعة... نمتلك النفط والغاز ومفاتيح النهرين الى الجنوب... نؤسس دولة على قياسنا، شعارها الدفاع عما تبقى من الحدود الشرقية للأمة العربية». يسعى الاكراد الى الدولة منذ عقود. قاتلوا من اجلها. دفعوا اثماناً للحفاظ على تميز هويتهم عن العراق العربي. ربما «كردستان الكبرى» تنتظر بضعة عقود اخرى، لكن كردستان العراق تمتلك كل امكانات الدولة، لتطوي صفحة هذا البلد، بأزماته وارتكاباته. لن ينام العراقيون، في عيونهم الملح، وفي قلوبهم مخاوف وبعض ما تبقى من خجل مطمور تحت ركام الخرائب، تستوقفهم الأسئلة المؤجّلة: «مَنْ سيتركنا نؤسس الدول الجديدة؟ من قال انها ستكون دولاً حتى»؟ لا يمكن شيعة العراق الذين يمتد نفوذهم التاريخي والثقافي والقومي الى عمق «أهواز» إيران وسواحلها، حيث النفط واللغة والعشائر المنقسمة بين طرفي الحدود، ان يسلّموا ارض الجنوب لبلاد فارس بلا ثمن، لن يكون بامكان اكثر رجال الدين تعاطفاً مع الوحدة الشيعية، وأكثر السياسيين ترعرعاً في الكنف الايراني، اقناع شيعة العراق بمنع عائدات النفط عن السنّة والأكراد لمنحها الى الإيرانيين. ماذا لو قررت البصرة ان نفطها لا تستحقه السماوة والديوانية وكربلاء؟ وماذا سيفعل السنّة؟ هل يعيدون تأسيس دولة «البعث»؟ ام الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ هل هم مستعدون لحرب طويلة مع الأكراد والشيعة على الأرض والماء وحقول النفط المشتركة؟ مَنْ سيدعمهم، هل تهتم تركيا بما بعد حدود الموصل؟ وهل ينشغل العرب بما يحدث خلف الصحراء؟ وهل يرى الأكراد حقاً ان بمقدورهم إنهاء تقاسم النفوذ الإيراني– التركي على أرضهم بقرار سياسي؟ هل يمكن من دون الوضع الجيوسياسي الحالي تحقيق توازن بين تشكيل الدولة وتطمين طهران وأنقرة بأن لا «كردستان كبرى» ستقضم حدودهما الحالية؟ لن ينام العراقيون تلك الليلة، ولا الليالي التي تليها. ستطاردهم العلامات الحدودية وتقسو عليهم التأويلات. للمرة الأولى صار في إمكان المهزوم أن يكتب تاريخه، سيختارون بعد سهر طويل أن يقولوا لأحفادهم: «لم تكن لنا يد في كل ذلك... ما كان يُدعى العراق ضيّعته المصادفات»!

مشاركة :