صورة الطفل الباكي

  • 6/13/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

صورة كانت في بيتي العتيق، منذ سنين، رأيت نسخةً مصورة منها على أرصفة إحدى المكتبات، تباع مع الكتب القديمة. رؤيتها أثارت في مهجتي ظلالاً رمادية ومناظرات للبكاء مع ذلك الطفل الحزين، الذي ذكَّرني بالطفولة المنهكة هذه الأيام، واستحضر في خاطري ضيقاً وأحاسيسَ اعتملت في صدري كنار الهشيم. تلك الصورة غرزت في قلبي سكاكين، بحروف رفيعة تخطُّ حكاياتٍ أليمةً، تذكَّرت ذاك اليتيم في المخيم القريب، يومها كتبت مقالةً صرخت حروفها بحسٍّ دفين، عيون ذاك الطفل لن أنسى ما حييت مشاعرَ وإحساساً عميقاً تدفق من بين السطور. سال نهر الدمع واختلط مع حمرة الخدود، واليوم الحال زاد، والواقع المر جعلني أخط من جديد حروفاً وجملاً وأحاسيسَ عادت وصرخت وصدحت وتصرخ من جديد للطفل اليتيم... كم أحب رمضان نوه الصغير! سألته لماذا؟ قال كل يوم أمنح حلوى من محسنين! لماذا لا نتذكره إلا في هذه الأيام المباركة، حقاً في هذا الشهر الفضيل الصدقات والبركات والبر والإحسان، ولكن الطفولة تغتصب كل يوم بشكل جديد، وواقع أليم. في جعبتي قصص كثيرة لأيتام كثر، حُرموا من آبائهم وأمهاتهم البيولوجيين، وركنوا إلى قمقم العزلة والنقمة، والحزن والحرمان. اسمحوا لي أن أعرض بعضاً منها، فهي ليست من نسج التخيل والتأليف، بل هي من الواقع المحسوس، ومن بين ملفات اليتيم. ومن مخزون حسرات سمعتها، وأُترجمها على ألسنة أبطالها الحقيقيين. أكثر ما يفطر قلبي في هذه الدنيا، رؤية دمعة طفل يتيم، رؤية عبراته تنساب على عتبات وجهه النحيل، فدمع الصغار أكثر غصة، وأكثر قسوة، وأشد إيلاماً من دمع الكبير... نراهم معذبين في فلسطين، وفي سوريا الشهباء، وعراق النخيل، وبلاد اليمن التي كانت سعيدة، بلاد العرب أوطان كانت تعم بالأخوة وبالخير، وأمست تعج بالقسوة لليتيم! كانت مستغرقة في حلمها، عندما أحسَّت بيد الصغير تهزها وتخاطبها بعين باكية: أُمِّي كفى نوماً.. استيقظي! أسمع بأساطيرهم، إنهم آتون بعيون شريرة يحدقون في فتحات الفراغ التي ثقبوها بين البيوت، يقاتلون الرياح.. انهضي!! دعينا نسابقهم ونهرب من جبروتهم! ضمَّت كف الصغير كباقة الورود، وأخذت تهدِّئ من روعه وتُقبِّل أنامله، وتطوي خوفه، وتبلع سرّه، وتناجي هلعه.. كان يهذي من كابوس اعتراه ذاك المساء، إثر مشاهدته لجنود عنفوا وقتلوا وبشعوا في حارتهم واعتقلوا كل من يتشبث بحب أرض الصمود.. وتحمل هم وطن يعشق الحرية قبل وبعد ولوج المحتل اللعين. تألَّق الصباح، وأمست ضوضاء النهار تملأ صدر المكان... كانت الفوضى هي ضيفة الزقاق! والحسرة تعج الوجنات! والصرخات تعلو الحناجر! وآثار قنابل مطاطية تملأ الزكام! ركضت مسرعة تطوي جوانب الطريق لتطمئن على شقيق، مطلوب ومختبئ من سطوة الغدر والقنص والتقتيل. لا أحد! الهمجي اللعين، وصل قبلها وقنص غدراً روح الشهيد. أماه لنغير الدروب! لمن سرق الحلم والزهور... قتلوا الخال وأبي.. وشقيقه الصغير! قد ينتظرون بالطريق!! لنغير المصير، تعبت من التخييم!! أرهقني الترقب والتخويف!! أرهقتني الفاقة والعوز، والتجويع... أين صدقة المحسنين؟ أين العدالة لمن يضيعون بالطريق؟ لنغير العالم الموحش! لنغير القدر والمصير، لا أمن ولا حفنة قروش! ولا حذاء سليم! دعينا نسير لنجمع بعض كرامة من القوت العسير!! وبدون أن تدري وعلى حين غفلة، أقبلت مركبة عسكرية مسرعة تنذر بالقدر اللعين... هرست الأمَّ أمام عينَيِ الصغير!! اختلج قلب الصغير لما رأى! وسالت الدموع كشلال بين الصخور، حتى غاب عن الوعي بدوّامة الخوف وهول المصير! بقلب يئن، وبيأس يصارع صحوة السليم، تمتم، دعوني.. أريد أمي.. هي من بقيت في عالمي تسد بعضاً من نوافذ الضياع والتعثير! مرت أيام وأسابيع على تلك المأساة التي أمسى بها الطفل بلا أم وبلا ردأ ولا سند، ضائعاً، والدمع ما زال واقفاً، راكداً في مجرى الدموع. أمي مضى عيد الأم.. وأنا بلا أم، غريب! لِمَ تركتِني أمي وحيداً، في غابة الوحوش؟ أنا رثُّ الثياب جائع، على خارطة الطريق. تمزقني أظافر الحياة، وأكاسر الشياطين، وتنهش في قلبي مصائب الزمان اللعين. وتفتك بيَ الأمراض من البرد والحقد والتعتير. أماه! أخذوني من المخيم إلى الميتم، وكلاهما مرَّ وأنا وحيد... كان لي أم قتلت بين ثنيات قلبي الضعيف.. وأنا أذرف الدمع الغزير.. وأب قنص قبل أن يدري إن كنت ابناً أو ابنة شهيد... لو.. لو! كان لي أب وأم كمحمد وعبدالله الصغير! يحمونني من حر الشمس وبرد الزمهرير. الخوف جاري، والشجر ملاذي، والحزن رفيقي وأنا مشرَّد أمشي وحيداً.. غامض المصير.. جائع خاوي المعدة.. قاصر عاجز التفكير.. ليس لي إلا تضرعي، لإله أناشده رَحْمَة لفاقدي الربع والتنسيب! قد بان عظمي وزادت فاقتي، وأُنهكت قواي بعد جفاف مياه القلوب!! ليلي أنين.. ونهاري شقاء وحزين.. لا سند لي فأنا معسر ويتيم.. ولا كافل لي إلا رب العالمين.. أهلي كلهم ميتون!! اكفلوني يا عباد الرحمن! فكافل اليتيم، والمسكين وابن السبيل.. هو في جنة النعيم مع الرسول الكريم. كنت هناك في القدس الشريف، حدثني أحد القصابين المقدسيين ممن يملك من الكرامة والنخوة ما يفيض عن حاجته. قال لي بلغ بي الجوع أنا وأبنائي السبعة حتى وصل لهرم من العجز ضاقت به سبل الرزق والكسب الكريم وطلبات المحتل من الضرائب ما يعجز عنها صاحب الحق والأرض، عنوان الصمود، ويجعله في دوامة لكثرة كاهل التحميل، فإما أن يبيع رزقه ودكانه ويتجول للتسول أو يقدم الروح قرباناً لفاقة التقتير! حتى كان ذاك اليوم الذي أتاه سائح من بلد بعيد، وأعجب بابنه الصغير ذي الأحد عشر عاماً الذي كان يساعد والده في جزِّ لحم الخروف. فاقترح عليه بعد أن اشتكى له الحال، اقترح السائح على القصاب أن يبيعه ابنه ليتبنَّاه، خاصة أن الأول يعجز عن الإنجاب، والثاني يعجز عن الإنفاق! احتار القصاب للطلب ورفضه، لكن الطفل قال لوالده لماذا ترفض وأنا أتمنى دراسة اللغة الأجنبية، وأتمنى السفر، وفكَّر القصاب، ولِمَ لا؟ فالسائح طمأنه وأعطاه ضمانات ووعوداً بأن يبقى مع ابنه على تواصل، وفعلاً هذا ما حصل، سافر الطفل مع السائح الثري، ومرَّت الأيام والسنين، حتى وصل النبأ اليقين برجوع الطفل إلى أرض التقديس. عاد وهو رجل ثري حاصل على العلم والشهادات، ليكمل البر بوالد وإخوة له ليمنحهم المال، ويلقنهم دروساً في حسن الخلق وعدم نكران الجميل. أما قصتي الأخيرة فهي لمولود لقيط، ألقي في حاوية للنفايات، داعبه فأر، وقرض جزءاً منه، وشوه كرامة الرجولة للوليد، الجنين عثر عليه أحدهم ورحله للملجأ بعد شفائه من التشويه، كبر الطفل وأصبح عمره فوق الخمس عشرة بخمس سنين. جاءت بعثة أجنبية وأُعجبت بذكاء الطالب النجيب، تبنَّته ونقلته للبلد البعيد، هناك منحوه الهوية، وأتم تحصيله الجامعي في جامعة مشهورة، وعمل وأصبح أجنبياً ثرياً من رواد البنوك، لكن لم ينسَ تشويهاً في جسمه الجميل، قرَّر القدوم للملجأ ليعرف السرَّ من أفواه من كان شاهداً عليه يوم الدخول. صعقه ما سمع، وصُعق أكثر من حال الميتم، والبؤس لليتيم، وزادت الغصة بعد أن أُخبر بأنه كان لقيطاً، ووجبة لفأر جائع لعين. امتصَّ غضبه وحقده، وحوَّله لعمل خير ورد لاعتبار الشرف والخلق الأصيل، وإحسان لعشرة أيتام تبنَّاهم على نفقته وصحبهم معه للبلد البعيد. ما أنبل هذه النفوس التي تحول فعل القبح للعطاء، ولحب الخير وللإحسان. هنا وهناك عصافير صغيرة هزيلة تستجدي على الإشارة والطريق، تشحذ القرش والرغيف. تأكل الكرامة في الحر والبرد تطلب أجرة الطريق، وكلٌّ وراءه قصة مكتوبة بالدم والحرمان من العيش الكريم. عصفوري الهش الحزين. عالمك الصغير لا يفقه ما يلوكه الكبير.. وتحمل الضغين، والهموم. طفلي الصغير.. أُقبل وجنتيك الحمراوين لأستدرك قسراً طفولتك المخبأة، بين زوايا الضغط ودوائر المحبطين!! وأمتص خطوط الحيرة الممتدة.. عمودية وأفقية على وجهك البريء ترسم دوائر العجز بأصبعك الصَّغير! رفقاً حبيبي، أنا أحبك وسع البحر والمحيط. طفلي اليتيم دموعك وعبراتك التي تخفيها بين الهدوب هي لآلئ صنعت من جحف البشر، وعواطف جمدت في حدقات اليتيم، وقسوة للخالي والفاقد الضمير! يا عباد الرحمن ومالكي الثراء، اكفلوا اليتيم.. فكافل اليتيم والمسكين وابن السبيل هو في جنة النعيم مع الرسول الكريم. وحين يكفل أي أنسان يتيماً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق اليتم والحرمان مثله، وأمرنا بعدم قهره ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ يقابلها ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ من سورة [الضحى]. أما من يتخوض في مال اليتيم ويسرقه لقدرته عليه واستضعافه، فهو كمن يأكل ناراً ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً﴾. وخذلان وقهر اليتيم بقول أو فعل ليس من أخلاقنا، بل من أخلاق المكذبين ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [الماعون:1-2]، إنه كلام الرحمن، تجعل الراعين لليتامى على حذر شديد من قهر اليتيم، وسلب حقوقه. قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:177]. كل عام وأنتم داعمون للخير والإحسان، وقائمون على بر الأيتام والمستضعفين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :