نهض البحث في هذا الكتاب "النصيحة السياسية.. دراسة مقارنة بين آداب الملوك الإسلامية ومرايا الأمراء المسيحية" للباحث المغربي المتخصص في العلوم السياسية د. عز الدين العلام، على مقارنة بين نصائح الملوك العربية - الإسلامية بمثيلتها الغربية، مؤكدا أن أوروبا العصور الوسطى شهدت، مثلها مثل الحضارة العربية - الإسلامية، إنتاجاً أدبياً - سياسياً غزيراً يخصّ "نصائح الملوك"، أو ما أُطلق عليه في تاريخ الفكر السياسي اسم "مرايا الأمراء". ويتعلّق الأمر بعشرات الكتابات، التي غطّت فترات طويلة من تاريخ أوروبا المسيحية بدءاً من أواخر القرن الخامس إلى حدود مشارف القرن الثامن عشر، واتّخذت أشكالاً متعدّدة في صياغتها، توزّعت ما بين الخطب والرسائل والمقالات والمواعظ... أمّا موضوعها الأساس، فيتمثّل، تماماً كما هو موضوع آداب الملوك الإسلامية، في بسط مجموعة من النصائح الأخلاقية - السياسية بهدف حُسن تدبير المملكة، أو الإمارة. ومن هنا تقديمها باعتبارها "دليلَ عملٍ" لا يتوخّى تحليل طبيعة النّظام السياسي وآلياته بقدر ما يسعى لتوضيح عدد من القواعد السلوكية التي يلزم الملك أو الأمير السير على نهجها. ورأى عز الدين العلام أن الباحثين في التراث السياسي العربي - الإسلامي بقضايا عدّة تخصّ الفرق السياسية والمذاهب الكلامية، كما حاول الكثير منهم استخلاص التصورات السياسية لبعض مؤرخي الإسلام وفلاسفته، ناهيك عن تنظيرات عدد من الفقهاء أصحاب السياسات الشرعية. ومع ذلك، وفيما لو استثنينا عمل بعض الباحثين المحقّقين، وبعض الدراسات المحسوبة على رؤوس الأصابع، لحقّ لنا الإقرار بوجود نوع من الإهمال أو التغافل في حقّ جزء كبير من هذا التراث السياسي، ونقصد بذلك ما اصطلح الجميع على تسميته بـ "الآداب السلطانية" أو "نصائح الملوك". وقال إنه من الصعب أن ننفي عن هذا النوع من الكتابة السياسية أهميّته التاريخية؛ بل الراهنة أيضاً. تتمثّل أهميته التاريخية في كونه شكّل المادة الأوفر من التراث السياسي الإسلامي مقارنة مع ما أنتجه الفقهاء في سياساتهم "الشرعية" والفلاسفة في سياساتهم "المدنية". كما تبدو أهميّته في تزامن ظهوره مع البوادر الأولى لتقعيد أسس الدولة العربية - الإسلامية الوليدة، وفي كونه شكّل المادة الرائجة طيلة قرون في بلاطات خلفاء الإسلام، وملوكه، وسلاطينه. أمّا أهميته الراهنة، وخلافاً لما قد يعتقد البعض من كونه جزءاً من ماضٍ راح وانقضى، فتتمثّل في كونه يشكّل مستودعاً حقيقياً لنوع الثقافة السياسية، التي سادت طيلة مجريات التاريخ العربي - الإسلامي، هذه الثقافة السياسية التي تؤكّد كلّ الوقائع اليوم ضرورة تجاوز مخلّفاتها أملاً في تحقيق ثقافة سياسية حديثة تربط الرقعة العربية - الإسلامية بمسار التاريخ الحديث. ثانيا: هناك توجّه فكريّ ظلّ سائداً لفترات طويلة في أوساط الباحثين والدارسين، ولاسيّما منهم المهتمين بقضايا التراث والحضارة العربية - الإسلامية، ومفاده أنّ فهم مشكلات "الحاضر" يستدعي الرجوع إلى جذورها في وقائع "الماضي"، وأنّ كلّ عوائق التقدّم التاريخي تجد مسبّباتها في "ماضينا" الخاص. وقد كان من نتائج هذا التّصوّر "العمودي" لمسار التاريخ الإغفال شبه التام لـ "الآخر" الحضاري، وإن تمّ الحديث عنه، فغالباً ما يكون باعتباره عامل تشويش على مسار المجتمعات العربية! وأضاف العلام: يرتكز مثل هذا التصوّر "العمودي" على نوع من انفصال الحضارات قد يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى التشبث بـ "هويات" عمياء خارج التاريخ، تُرفع إلى مقام التقديس، والاعتزاز الفارغ، كما لا ينتج عنه غير عزل "التواريخ الخاصة" عن مسار التاريخ الإنساني العام. قد يكون لهذا التوجّه ما يبرّره، وقد يحمل معه بعض الفوائد المعرفية. غير أنّه، في المقابل، يمكن القول: إنّ اعتماد تصوّر "أفقي" يرتكز على استحضار "الآخر" في أبحاثنا ومناقشاتنا، ومقارعة وقائعه بوقائعنا، ومقابلة ما جرى ويجري عنده بما جرى ويجري داخل رقعتنا، قد يكون له من الفوائد ما لا يُتوقّع. من شأن هذا التصوّر "الأفقي" - إن جاز التعبير- أن يسمح لنا بإدراك أشياء، غالباً، نتغافل عنها، وفي مقدّمتها أن أغلب القضايا، التي تعاني منها المجتمعات العربية اليوم، وبالأمس القريب، هي ذاتها التي تمكّنت أوروبا، في فترات متقدّمة من تاريخها، من معالجتها والتّغلّب عليها، تارة بالتساكن، والتفاهم، والمهادنة، وتارة بالدم، والصراع، والحروب. وأشار إلى أنه منذ أواسط القرن الثالث عشر الميلادي، تمكّن الفكر السياسي الأوروبي، على الأقل في جزء منه، من ملاءمة القيم الدينية المسيحية مع العقلانية "الأرسطية"، والتّفكير في المجال السياسي شيئاً "طبيعياً". كما تمكّن من تكييف "الأخلاقيات" المهيمنة آنذاك مع الواقع السياسي الجديد، وما يتطلّبه من خبرات وتقنيات، فاتحاً بذلك الطريق نحو تأسيس بوادر إدارة أو "بيروقراطية" محلية ووطنية حديثة. كما نجح هذا الفكر السياسي في التجاوب مع الدّعوات الإصلاحية، وما كان يعتمل داخل النسيج المجتمعي من تغيّرات نتيجة ظهور فئات اجتماعية جديدة لم يعد الواقع السياسي والقانوني السائد آنذاك يساير طموحها، فأكّد، بذلك، أهمية "القانون" وأولويته بالنسبة إلى الحاكم والمحكوم في مقابل فكرة "الولاء" الفيودالية. ولا نتيجة لمثل هذا التجاوب غير ظهور بوادر تأسيس مجتمع "مدني" يقوم على مبدأ "التعاقد" وقيم الفردانية والمنفعة والانتماء الوطني بدل تصوّر ظلّ يختزل المحكومين في خانة "الرعايا" المؤمنين الطيّعين... كلّها عوامل مهّدت لتبلور الفكر السياسي الحديث الذي أكّد، في النهاية، مفهوم "الدولة – الأمة"، باعتبارها قيمة مستقلّة في حدّ ذاتها، دونما حاجة إلى قيم أخلاقية أو دينية تبرّر بها وجودها. ولفت العلام إلى أن كلّ هذه القضايا المذكورة، التي أسهمت مرايا الأمراء، إن سلباً أو إيجاباً، في حلّها وتجاوز بعضها، لا تزال، إلى اليوم، حاضرة في الرقعة العربية، تحول دون الانفتاح الكلّي للدولة والفرد والمجتمع على السواء. فالعلاقة بين الأوامر الدينية والقيم الأخلاقية وبين المجال السياسي لم تجد بعد طريقها نحو الحل، ولا تزال، إلى اليوم، يكسوها بعض الغموض والكثير من الالتباس. وكلّ القضايا المرتبطة بضرورة تأسيس مجتمع "مدني" مستقل يحكمه مبدأ: التعاقد "القانوني" بين الناس في علاقاتهم ومعاملاتهم؛ لا تزال في طور التّأسيس. وكلّ القضايا المتعلّقة بضرورة تأسيس إدارة حديثة تقوم على مبدأ "الشيء العام" بديلاً لحواشي وتوابع ليسوا غير امتداد ليد الحاكم الطولى، نجدها مطروحة إلى حدود اليوم. أمّا فيما يخصّ العلاقة بين المحكومين وحاكميهم، فما زلنا نعاني، إلى حدود اليوم، عُسر الانتقال من جمْع "الرعايا" إلى مُفرد "المواطنة". ورأى أن الكثير أصبح يتحدّث اليوم، عن مقوّمات الدولة الحديثة وكأنّها معطى جاهز، دون الانتباه إلى أنّها خلاصة وتتويج لصيرورة تاريخية متعدّدة الأبعاد تمتدّ من قلب العصور الوسطى إلى تباشير العصر الحديث. وليس التّفكير في "مرايا الأمراء" الغربية - المسيحية، ومقارنتها بـ "آداب الملوك" العربية - الإسلامية، غير محاولةٍ متواضعة منّا لإدراك بعض أوجه هذه الحركية التاريخية. وأكد العلام أن الفارق النوعي بين التجربتين، الإسلامية والمسيحية يتوضح في تعاملهما مع الإرث السياسي الإغريقي، ولاسيما منه الأرسطي؛ ففي مقابل الغياب التام للمفاهيم السياسية الأرسطية (الدولة، أشكال الحكم، المواطنة...) في نصوص آداب الملوك، التي خلقت لنفسها أرسطو آخر منحولاً لا تختلف تصوّراته عمّا صاغه ملك فارس أردشير في وصيته لولي عهده، أكّد العديد من الباحثين الثورة الفكرية السياسية، التي أحدثها استلهام كتاب (السياسة) لأرسطو في الفكر السياسي الأوروبي الوسيط منذ ترجمته نحو (1260). ومن جهة أخرى، تبيّن لنا الاختلاف العميق في تمكّن المرايا المسيحية اللاحقة من الانتقال بــــ: «الخصال الأخلاقية» اللازمة في الملوك والأمراء إلى مستوى «الفضائل الذهنية»، ومن ثمّ إلى الربط بينها وبين ما يفرضه التدبير السياسي من اكتساب خبرات وتقنيات أدّت، في النهاية، إلى فتح الطريق نحو بناء بوادر الدولة الحديثة. وأوضح فيما ظلّت نصائح الملوك الإسلامية حبيسة الرادع الأخلاقي والديني، درعاً واقية من شرور الاستبداد، تمكّنت المرايا من إدخال "برادايم" القانون قواعد تسري على الحاكم والمحكوم، مدشّنة، بذلك، بداية الطريق نحو انفصال الدولة عن شخص الحاكم. من المؤكَّد أنّ هذه الأدبيات، بشقيها الإسلامي والمسيحي، ما فتئت تؤكّد السلطة "المطلقة" للملوك والسلاطين، بغضّ النّظر عمّا تطرحه من رادع "أخلاقي" أو حدّ "قانوني" (في الواقع "شرعي" بالنسبة إلى آداب الملوك الإسلامية)، غير أنّ الفارق يظلّ قائماً بين التّنظير لسلطة مطلقة استبدادية تتوخّى الحفاظ على دولة سلطانية "قائمة"، وسلطة مطلقة مركزية تسعى للقضاء على التشتّت الفيودالي القائم في اتّجاه تأسيس دولة "قادمة". ويتأكّد هذا المسار المختلف للمرايا اللاحقة في نقطتين تبدوان جوهريتين؛ تتعلّق الأولى بتصوّر العلاقة بين المحكوم والحاكم، وتخصّ الثانية موقع رجال الدولة، دينيين ودنيويين، من السلطة السياسية. وقال العلام إن النقطة الأولى تُبرز كيف ظلّ مفهوم الرعايا المؤمنين الطيّعين سائداً في الفكر السياسي السلطاني، وملتصقاً بمبدأ "التملّك"، الذي يضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وذلك في مقابل تمكّن "المرايا" اللاحقة من الارتقاء بهذا التصور في اتّجاه تثبيت مفهوم الشعب و"الجماعة الوطنية". وبدل واجب الطاعة المطلق، وما يفترضه، بداهةً، من سلطات مطلقة للحاكم في تدبير أمور دولته، بزغت بوادر مبدأ "التعاقد"، وأصبح خضوع المحكومين، كما أشار إلى ذلك جيل دو روم، خضوعاً للقوانين، وتعبيراً عن إحساس بـ "الانتماء الوطني". وفي مسار وضع البوادر الأولى للدولة الحديثة المقبلة نفسه، تُبيّن لنا النقطة الثانية نوعاً من الانسحاب التدريجي لرجال الدين المسيحيين من الدائرة العمومية في اتّجاه المزيد من "دنونة" المجال السياسي، وذلك في مقابل استمرار العلاقة نفسها، التي كانت تحكم الدين، عقيدة ورجالاً، بالدنيا، سياسةً وسلطاناً. ونتيجة لهذا المسار نفسه، ظهرت فئة جديدة من "الإداريين" وأصحاب الخبرات التقنية، الذين كانوا وراء التكوّن الجنيني لـ "بيروقراطية" ستشكّل عصب الدولة الحديثة القادمة، وذلك مرّة أخرى في مقابل استمرار حديث آداب الملوك الإسلامية عن حواشٍ و"وظائف سلطانية" تأتمر بأوامر ولي أمرها. وختم د. عز الدين العلام بحثه بنقد هذه الآداب والمرايا، مصير حضارتين مكشوفاً؛ حضارة صاعدة، وأخرى أفل نجمها. كان كتاب "الأمير" لمكيافيلي تتويجاً لمرايا الأمراء، ونقلة نوعية نحو تأسيس الدولة الحديثة، وكانت "مقدّمة" ابن خلدون لحظة كشف عن أوهام مدوّني نصائح الملوك، وإعلاناً عن تاريخ مسدود. والواقع أنّ النقد المكيافيلي كان ذا وجهين، فهو، أوّلاً، ينطبق على كلّ أوجه الالتقاء بين آداب الملوك ومرايا الأمراء، ولاسيما في تعاملهما مع العلاقة التي تجمع بين الأخلاق والسياسة من جهة، وبين الدين والسياسة من جهة ثانية، كما يمكن عدّه، ثانياً، تطويراً عميقاً لكلّ أوجه التباين بين آداب الملوك ومرايا الأمراء، ونقصد بذلك التّأويل الجديد للمسيحية، والانكماش التدريجي لدور "الإكليروس" في الحياة العامة، وإحلال الوطن والشعور الوطني محلّ الدين والأمّة المسيحية، وموضوعات أخرى سبق ذكرها. محمد الحمامصي
مشاركة :