ليست على عادتها القدس في رمضان، فأجواء القمع والمداهمات واقتحامات المستوطنين المتكررة اغتالت عادية الأيام والسنين، التي عادة ما تترك بصماتها وتواقيعها الصغيرة على أسوارها وتمضي، ولكن القدس تبدو وكأنها تقترب أكثر وأكثر مرتبكة حزينة في آن، تبدو هذه الروح في ثوبها أمام مشروع الإخفاء والإطفاء الطويل الأمد، تبدو القدس أقرب إلى النظر في مرآتها، لترى صورتها من دون احتلال. في أسواق القدس فوانيس لا تجد من يشتريها وحلويات للأيام المرّة، وخضار على قارعة الطريق، و«القطايف» حلويات يُذكر بها رمضان في بلدتها القديمة، ولهذا الشهر الكريم طقوسه الخاصة، ومذاقه المختلف في المدينة المقدسة.. طقوس متراكمة وعابرة للأجيال، تضفي على المكان روحاً مختلفة يمتلئ بها الناس. فتطفو على وجوههم حباً وأمناً وسلاماً، لكن القدس الصائمة تحاول أن تواصل الحياة فتصوم رمضان هذا العام تحت حصار خانق، يشل حركتها التجارية المعهودة، واقتحامات وحشية للمستوطنين، تنال من طقوس هذا الشهر وعاداته الكاملة، ونكهته الخاصة، وتقتل ما يرافقه من بهجة وإعداد واستعداد. يعمل محمـد الحلواني «70 عاماً» منذ نحو أربعة عقود في تصنيع الحلويات وبيعها في القدس، لم يستقبل سوى زبون واحد طوال نهار الجمعة الأولى من رمضان. يقول وهو ينظر إلى الأواني المليئة بالحلويات: «في هذه الأيام، غالبية الزبائن تبحث عن المواد الغذائية الأساسية، وعن رغيف الخبز. ولا تطلب الحلويات، وكثرة المتجولين في السوق لا تعني أن الكل يريد الشراء، فالبعض متفرج، والبعض الآخر يجد في السوق مكاناً لإضاعة الوقت، لقد اختفت هذا العام معظم الطقوس المعهودة للشهر الفضيل، وخصوصاً شراء ما يلزم من المأكولات الرمضانية». مظاهر خافتة وعند الدخول إلى المدينة المقدسة، لاسيّما بلدتها القديمة، تلحظ اختلاط المشاهد والمعاني في ما بينها، وتتعدد المظاهر الخافتة التي تزيّن شوارعها وأزقتها من بسطات لبيع المشروبات الرمضانية، وحلويات وخضراوات بأنواعها وفوانيس بأشكالها وألوانها، ومع أن الآلاف يتوافدون إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة، إلا أنّ الحزن يلف أكناف المدينة المقدسة، لاسيما بفصلها عن باقي المدن الفلسطينية، ومحاولات الاحتلال الدائمة لتهويدها. وفي الأسواق القديمة «العطارين» و«القطانين» و«الواد» و«خان الزيت»، هناك العشرات من المحال التجارية يميناً وشمالاً بعضها مغلق، وآخر مفتوح على استحياء، وللوهلة الأولى تشعر بأن وقت الصلاة قد حان، لكن بعد التدقيق في الوقت، فإنه لم يحن بعد، فما الأمر؟! مسحراتي اعتاد الناس في شهر رمضان كل عام في القدس المحتلة على سماع طبول المسحراتي الذي كان يجوب شوارعها العتيقة ويضيء فانوس رمضان، تصاحبه أصوات الأطفال وهم ينشدون ويهللون فرحين مستبشرين بالشهر الفضيل وسماع مدفع رمضان الشهير، الذي كان يخرج صوتاً مدوياً من مقبرة باب الساهرة. إلّا أنّ هذه المشاهد غابت هذا العام وحلّ بدلاً منها أصوات المستوطنين الذين يعملون ليل نهار على إزعاج الفلسطينيين والتنغيص عليهم، بل ويتفننون في أساليب القمع بالتربّص بالمصلين المارّين في أزقة البلدة القديمة ليلاً والاعتداء عليهم بالضرب، لاسيّما مع وقت صلاة الفجر من رمضان. وتقول الحاجة «أم أحمد» لـ «البيان»: «اليوم لا نحتاج إلى المسحراتي، فالبركة في المستوطنين، الذين يحتلون أسطح المنازل، ويرشقوننا بالحجارة والنفايات، وفي رمضان هذا العام، أصبحنا نخاف النزول إلى المسجد الأقصى ليلاً لصلاة التراويح أو على صلاة الفجر بسبب تحركاتهم الدائمة. والتي يُقصد منها إبعادنا عن المسجد، والكل هنا يستذكر كيف قتلوا الشهيد الطفل محمـد أبو خضير وأحرقوه حياً، بعد أن خطفوه وهو في طريقه لأداء صلاة الفجر في المسجد الأقصى، لكن هذا كله لن يثنينا عن أداء واجبنا الديني والوطني، حتى لو كان الثمن دماءنا وأرواحنا». سوء أوضاع وصف التاجر يوسف أبو اسنينة «67 عاماً» الوضع بالسيئ، بسبب الحصار والاقتحامات اليومية للمستوطنين، موضحاً أنه في أيام كهذه خلال السنوات الماضية «كنا لا نستطيع الوقوف»، لكن اليوم انقلبت الأحوال، وأصبحت أسواق المدينة شبه خالية باستثناء يوم الجمعة، بسبب زيارة أهالي الضفة الغربية وغزة، وفلسطين المحتلة 48 عاماً، لقد ماتت أصوات الناس التي كانت تملأ المكان، ولم نعد نسمع غير صوت جنود الاحتلال، ودبيب أحذيتهم الثقيلة التي تدوس القلوب، قبل أن تدوس الأرض.
مشاركة :