بداية أود أن أوضح الأسس الأخلاقية التي بُنِيَتْ عليها هذه المقالة تجنباً لأي سوء فهم، أو اتهام بالدعوة إلى تدمير المنظومة الأخلاقية الصلبة التي تقوم عليها اقتصاديات الدول العربية ومجتمعاتها، ولنتذكر في هذا السياق أهم المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي وهو مبدأ ميكافيلي؛ حيث الغاية تبرر الوسيلة، وكما سيتم إيضاحه لاحقاً، فإنه في سبيل رفع سوية الأنظمة الاقتصادية وتطوير المجتمعات وإرساء الأمن لا بد من إعادة تعريف بعض المرجعيات الأخلاقية، وربما ثنيها قليلاً لتحقيق الغاية المنشودة. ولنبدأ بتعريف أو إعادة تعريف ما هو "أخلاقي"، ولنستعِن هنا بمثال الأسد الذي يطارد قطيعاً من الغزلان ويفترس منه ما يفترس، في الوهلة الأولى قد يظن المرء أن تصرف الأسد تجاه القطيع هو تصرف غير أخلاقي، ولكن إذا عرفنا أن الأسد يفترس الضعيف والبطيء من الغزلان، الأمر الذي يضمن بقاء أفضل سلالات الغزلان وتوارثهم جينات القوة والسرعة فسوف نعيد النظر في الحكم الأخلاقي على عملية الافتراس، ومن هذا المنطلق، فإننا إذا اتفقنا على أن تحقيق المصلحة العامة، وبالتحديد المصلحة الاقتصادية للمجتمع هو غايتنا فعلينا أن نتغاضى عن بعض القوالب الأخلاقية البالية. إن الغاية من أي نشاط اقتصادي هو تحقيق الثروة، ومن المسلم به في علم الاقتصاد أن العنصر الأساسي والأهم في النجاح الاستثماري، هو القدرة على التخطيط المبني على قراءة السوق، فمثلاً إن قدرة صاحب مصنع ما على قراءة السوق الاستهلاكية لما سوف ينتجه من حيث العرض والطلب والأسعار والمنافسة تشكل الأساس الأهم في قرار الاستثمار، وكذلك هو الأمر لمن يعمل في مجال الخدمات والتجارة والمقاولات وغيرها، ومن المؤكد أن ضبابية السوق سوف تنعكس سلباً على كافة القرارات الاقتصادية؛ حيث يتعذر التخطيط السليم، الأمر الذي سوف يؤدي لانهيار المؤسسات التجارية، وانتشار البطالة، وتراجع اقتصاد الدولة، ومن ثم هروب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية لأسواق أكثر "تنبؤية"، ولكن كيف يمكن التنبؤ بالسوق وحالة العرض والطلب، من منطلق اقتصادي بحت؟ هناك خياران لا ثالث لهما: - الشفافية المطلقة التي تجعل كل عناصر السوق واضحة تماماً، ويشمل ذلك التكاليف والأسعار والمنافسة والتأهيل الفني، وأسس إحالة العطاءات وغيرها، وبالتالي إذا أرادت مؤسسة ما الاستثمار فإنها تقرأ بوضوح تام كافة معطيات السوق وتخطط بناء عليها، ومن الجلي أن مثل هذه الشفافية لا تتوفر إلا في أماكن محدودة في العالم مثل دول اسكندنافيا وأوروبا الغربية ونيوزيلندا وكندا، ووجودها مرتبط بأطر سياسية واجتماعية لم ولن تتوفر يوماً في دول العالم الثالث والرابع والخامس التي ننتمي إليها، وبالتالي فإن هذا الخيار ببساطة غير وارد. - الفساد الممأسس المنظم الذي يضمن أنه لدى رشوة الجهة المناسبة أو مشاركتها أو تمكينها سياسياً فإنه يمكن ضمان نجاح عمل أو مجموعة من الأعمال التجارية بغض النظر عن المنافسة أو الأسعار أو الجودة، وبالتالي يمكن ضمان بيع منتج ما بغض النظر عن العوامل المعطلة، وبناء عليه يمكن لرجل الأعمال التخطيط المسبق وتخصيص الموارد الضرورية ومتطلبات الإنتاج دون قلق أو مغامرة، وبهذا تنتعش الأسواق وتزدهر الأعمال بعيداً عن المجازفة التجارية وما تجره من عواقب وخيمة، وقد تعمدتُ في هذا السياق استخدام مفهوم "المأسسة" الذي يتطلب التزام كافة الأطراف المعنية باتفاقاتهم وعدم تأثر ترتيباتهم -ولو كانت شفوية- بعوامل طارئة كإقالة وزير أو استبدال مدير أو مداخلة وسيط أو تغير رأي أو زيادة في المطالب، وهذا ما يميز الفساد الممأسس الذي نتحدث فيه عن لعنة الفساد العشوائي الذي نعاني منه في الوطن العربي؛ حيث يمكن لموظف صغير تم تجاوزه أن يعطل عملاً اتُفِقَ به مع رئيس أو وزير أو حيث يقرر أحد الأطراف أن نصيبه في الصفقة منقوص بعد أن كان قد وافق عليه فيطالب بالمزيد، وهو ما يؤدي بالضرورة لفشل التخطيط الاقتصادي وفقدان الأسواق لمصداقيتها. ولا يخفى عليكم أنه في حين أن الخيار الأول يصطدم مع ثقافتنا وأجوائنا السياسية والاجتماعية يتماشى الثاني إلى حد كبير مع منظومتنا الاجتماعية القائمة على المحاباة أصلاً هذا بالإضافة للميزات أو المكتسبات التالية: تركيز الثروة: إن من أبجديات علم الاقتصاد أن تركز القوى العاملة بأعداد كبيرة في مؤسسات محدودة هو أكثر نفعاً للعاملين من تبعثرهم بين عدد كبير من المؤسسات المتباعدة؛ لأن تقديم الخدمات الجماعية لهم كالتأمين الصحي والاجتماعي وخدمة المواصلات وغيرها يكون أكثر جدوى في حالة زيادة عددهم وتركزهم، ومن البديهي أن تركز العمل والعمالة مرتبط بتراكم الثروة؛ إذ يتمكن رجال الأعمال من إنشاء مؤسسات كبرى توظف عدداً كبيراً من العاملين، وليس هنالك طريقة لتحقيق ذلك سوى بالاعتماد على الفساد الممأسس الذي يوفر المال من جهة، والثقة والمصداقية المطلوبة من جهة أخرى. تنشيط الأسواق وجلب الاستثمارات: في بيئة استثمارية آمنة كتلك التي يوفرها الفساد الممأسس، سيقوم بلا شك أصحاب الثروات المتراكمة باستثمارها في الأسواق بكل ثقة بدلاً من تراكمها في الخزائن والبنوك، وبالتالي سوف تزدهر الأعمال وتضمحل البطالة، وهو ما سيؤدي بالضرورة لجذب رؤوس الأموال من الخارج، وبالتالي زيادة فرص العمل وهكذا دواليك. تعزيز النظام السياسي: من البديهي أن مأسسة الفساد وارتباطه بالمؤسسات السياسية والسيادية للدولة يشكل شبكة أمان للطرفين، فمشاركة المتنفذين من رجال الدولة في الكعكة الاقتصادية، ومشاركة رجال الأعمال في القرار السياسي يضمن بقاء ومصلحة الطرفين، وهو ما ينعكس مباشرة على تثبيت نظام الحكم ومؤسساته وانتشار الأمن والأمان الذي ينعم به المواطن العادي، فكما أن هناك دولة عميقة هناك اقتصاد عميق يسهم في دعم أطر الدولة العميقة، ويشكل سداً منيعاً ضد الحركات الفوضوية التي يمكن أن تثيرها قلة من الحاقدين، وما حدث في أكثر من دولة عربية من عودة لرموز الأنظمة المخلوعة بدعم من مؤسسات اقتصادية هو أكبر دليل على صحة هذا الطرح. وغني عن القول إن مأسسة الفساد لا يعني أبداً التضحية بالمنظومة الأخلاقية أو الرقابية أو الإدارية تماماً، بل على العكس من ذلك، فإن ضمان فاعليته يكمن في القدرة على تعديل هذه المنظومات أو إيجاد منظومات موازية لها تكفل أن يلتزم جميع أطراف معادلة الفساد بقوانين اللعبة، فمثلاً وفيما يتعلق بمنظومة القضاء يجب أن يتم تطوير نظام قضائي موازٍ للنظام المعمول به تكون مرجعيته التزامات الأطراف المعنية باتفاقياتهم وحصصهم بغض النظر عن مدى مطابقتها للقوانين التقليدية الحقوقية التي عفى عنها الزمن، وكذلك الأمر بالنسبة للمنظومة المالية وأعمال المصارف؛ حيث يجب أن تكون من المرونة بما يسمح بإصدار الكفالات والضمانات المالية المبنية على صفقات الفساد الممأسس دون التفات لأي معايير أخرى. وفي النهاية أود أن أشيد بما حققته عدد من الدول العربية من تطور حثيث في تحقيق هذه الغاية النبيلة، وإن لم تكن أي منها قد أكملت الطريق لنهايته بعد، وكلنا أمل أن تتحقق أحلام مواطنينا بالتنمية والازدهار والأمن والأمان في ظل فساد ممأسس ومدروس ومنظم يعم مردوده على الجميع. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :