حان الوقت لإعادة النظر في وهم قوة الصحافة : كرم نعمة

  • 6/17/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حان الوقت لإعادة النظر في وهم قوة الصحافة كرم نعمة لم تكن زعيمة حزب المحافظين تيريزا ماي وحدها الخاسر في الانتخابات البرلمانية البريطانية، إنما الإعلام هو الخاسر الأكبر! ليس مهما أن تطلق عليها الصحف البريطانية “البطة العرجاء” والمرأة الميتة التي تمشي على قدمين، المهم أن تعترف تلك الصحف بخسارتها في استقطاب عقول الجمهور، وأن تأثيرها أو انحيازها لحزب ما لم يعد أمرا ذا أهمية، هكذا كشفت الانتخابات في أعرق الديمقراطيات الغربية، والإعلام صنو لا غنى عنه في الديمقراطيات الكبرى، لكن خسارة القوى المؤثرة على الجمهور تعيد رسم فكرة التأثير واختراق العقول من أساسها. لقد واجه الجمهور بآذان صماء كل التحذيرات والتحليلات الصحافية والصراخ التلفزيوني وأعاد مسار الانتخابات وفق ما يراه وليس وفق قوة تأثير وسائل الإعلام وانحيازها، وهذا يعني أن الوقت قد حان لإعادة النظر في وهم قوة الصحافة، وفق الكاتب بيتر بريستون المحلل للمضمون الإعلامي ورئيس تحرير صحيفة الغارديان السابق. يعرض بريستون لتوجه الصحف البريطانية قبل الانتخابات وكيف أنها فشلت في إدارة عقل الناخب، فتحليلات الصحف اليمينية لإمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، لم تكن سوى تحذيرات بعذاب سياسي سَحَقهُ الناخب البريطاني في ما بعد، بل أن كلام صحيفة ديلي ميل في يوم الاقتراع بأن الأصوات كلها ذاهبة للمرأة الحديدية 2، لم يكن سوى تأكيد للجملة الفلكلورية “كلام جرائد”، فلم تعد تيريزا ماي الروح البريطانية، وإنما وجدت نفسها في ورطة. لقد قادت الصحف اليمينية ما يمكن تسميته بالجحيم الذي ينتظر البريطانيين في حال انتخاب اليساري المتطرف جيرمي كوربين، كانت العناوين تقدح بالشرر، الشرر الذي سيتسبب به كوربين ويقرب نهاية العالم إذا عاد حزب العمال إلى الحكم ثانية، لم تذكّر مثل هذه الصحف بالشر الحقيقي الذي تركته أكاذيب توني بلير على حزب العمال، لكنها كانت تتحدث عن انحيازها المجرد لحزب المحافظين. مع ذلك فإنه لا يهم اليوم بعد انتهاء الانتخابات من الفائز، بقدر أن تمثال الصحافة قد فقد نصفه الأيمن وربما يتوارى مستقبلا ولن يحفظ في المتحف السياسي، فذاكرة الجمهور اليوم أقوى من متاحف الصحافة. ما بقي حتى الآن تمثال نصفي لتأثير الصحافة على رغبات وعقول الجمهور. هذا ما آلت إليه الانتخابات في بريطانيا. قوة التأثير التي تمتلكها وسائل الإعلام ليست مقتصرة على طبيعة صناعة الخطاب وتوجيه العقول، بل في العلاقة التي ضعفت أصلا بين وسائل الإعلام والجمهور، تقلصت الطباعة وأصاب الكساد توزيع الصحف، الجمهور صار يقرأ ما يرغب به وليس ما يقدم له. وصلت الجرأة بالمحللين إلى القول إن وسائل التواصل الاجتماعي هي التي سلمت الولايات المتحدة إلى دونالد ترامب، وهي من دفعت البريطانيين إلى التصويت لصالح بريكست، بل وصارت تلك المواقع أكثر جرأة من الصحافة اليمينية، وطوقت التلفزيون بحزام من الصدأ. لم تكن هناك أخبار وهمية بالتأكيد، دفعت البريطانيين لعدم التصويت بكثافة لحزب المحافظين، ولا يمكن أن نجد كلاما عن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تغيير مسار الانتخابات البريطانية، كما شاع في انتخابات الرئاسة الأميركية، بل ينصحنا بريستون بالنظر مليا إلى ما حصل على فيسبوك عشية الانتخابات البريطانية، يكاد نصف الناخبين تقريبا قد حسموا أمرهم علنا على صفحاتهم الشخصية وأثروا على غيرهم من المتابعين، كانت وجهات نظر الناخبين تدافع عن نفسها بطريقة لا تقلد التحليلات الصحافية الجوفاء التي تلوي عنق الأخبار. لقد صنع المجتمع العملاق على فيسبوك خياره من دون أن يراهن على الصحف، بل إن الأساليب الإعلانية التي أدارها حزب المحافظين صارت من الموضات القديمة، الأمر الذي أطاح بالمستشارين الخاصين لرئيسة الوزراء البريطانية، نيك تيموثي وفيونا هيل. وقال تيموثي إنه قدم استقالته بعدما تأكدت نتيجة الانتخابات، محمّلا نفسه مسؤولية البرنامج الانتخابي الذي وضعه المحافظون خلال الحملة التي سبقت الانتخابات. لم يعد فلاسفة الإعلام صنّاع ملوك، من يصنع الملوك اليوم الجمهور ورغباته وطموحاته الشعبوية، النخبة بدأت تهبط من برجها العالي لاكتشاف الواقع كما هو. قبل ثلاثة أشهر التقيت مصادفة على جادة الطريق أليستر كامبل السكرتير الصحافي الأسبق للحكومة البريطانية إبان رئاسة توني بلير، والعقل الإعلامي المدبر لإعادة حزب العمال إلى السلطة، وأثناء الحديث المقتضب معه تطفل مار آخر عليه بسؤال ذكي عن توقعاته لمستقبل حزب العمال بعد صعود جيرمي كوربين، فرد عليه بجملة لا تقبل اللبس والتأويل، لا مستقبل سياسيا قريبا لحزب العمال! مثل هذا الكلام انطلق من فم كبير السحرة في معبد الإعلام، لكن الملايين من الشباب الذين يجولون يوميا في فضاءات الإنترنت فندوا مثل هذا الكلام لخبير إعلامي من طراز ناجح كأليستر كامبل! الشباب من يصنع الرأي اليوم، ويصححون بأنفسهم لما يطبع وينشر من كلام صحافي محترف، يمارسون التحريض بطريقة سهلة، ينحازون علنا، يبثون كراهيتهم، يعبرون عن آرائهم، لكنهم في النهاية على قدم المساواة في المجتمع الرقمي الهائل الذي يقود العاصفة إلى الأمام، ويترك تراجع وسائل الإعلام التقليدية، فلم تعد تجدي حملاتها في مجتمع رقمي هائل يديره الناس، لم تعد فيه لأوهام قوة الصحافة غير أرشيف الأمس، ولا مزيد من الأعذار، فالصحافة تعيش في زمن ليس عادلا بحقها. كاتب عراقي مقيم في لندن باهر/12

مشاركة :