قدَّم الفنان التشكيلي المصري أحمد شيحة أخيراً معرضاً استعادياً في غاليري مصر بعنوان «أسطح زمنية»، عرض من خلاله صياغة للزمن بحس فني عال في قالب حديث، إذ يعُد الزمن جزءاً وعاملاً أساسياً في تجربة شيحة التشكيلية التي بدأها قبل 40 عاماً. الزمن فرض على شيحة، كما يقول، الشكل التركيبي في أعماله الأخيرة التي تجمع بين التجسيد والتجريد، والرسم والنحت والنقش... حول معرضه وتجربته وأعماله التقته «الجريدة». وكان الحوار التالي: قدَّمت أخيراً معرضاً تشكيلياً بعنوان «أسطح زمنية». ما دلالاته؟ الزمن عنصر أساسي في أعمالي. بإمكان الفنان المصري أن ينتقل من زمن إلى زمن آخر لأنه يحمل في طياته الحضارة المصرية المبكرة وتراكم الحضارات والتجارب الفنية التي تقع على كاهله، وعليه أن يفك هذه المعضلة ويجمع بين الماضي والحاضر في جسد واحد من دون أن يعيد صياغة الماضي في قالب واحد بل في قوالب جديدة، ويحافظ على روح هذه الحضارة بعيداً عن تكرارها. من هنا، يستطيع المشاهد والمتلقي والمتخصص قراءة هذه الدلالات على سطح الأعمال، خصوصاً من خلال الطريقة التي حرصت على أن أعمل عليها طوال عمري وهي «سطح اللوحة»، لذلك ثمة أسطح زمنية لها علاقة بتاريخ تجربتي وعلاقتي بمصر من خلال «مصر القديمة واليوم وغداً»، ونتطلع جميعاً إلى أن نقدِّم رؤى جديدة للمستقبل عبر الابتكار الذي لا يستطيع الفنان أن يستغني عنه لأنه عكس التبعية والتجمد. تجربة متلاحمة يعكس معرضك اهتمامك بالبحث والتجريب. للبحث علاقة وطيدة بروح المصريين القومية، ولا أستطيع أن أهرب من هذا الأسر لأن مصر دائماً تجذبنا إلى جذورها وإلى الطلاسم التي تبدو أحياناً غائرة في حنايا هذا الوطن، وعلى الفنان أن يستخلصها ويقرأها ثم يهضمها، ليخرج برؤية متجددة. وأؤكد أن لدى العناصر والدلالات المصرية القديمة القدرة على التكاثر والتوالد مع كل باحث. لا نستطيع أن نعطي ظهرنا لهذا الوطن، أو سنشعر بأننا نحلق في الفراغ، ليس لنا ظلّ أو قدم ثابتة على الأرض. الفن المصري الحديث لا بد من أن يحمل في طياته هذه الأصالة المصرية من دون ادعاء، ولا بد من الوقوع في كمين المماثلة بين المصري القديم والفن الحديث. يضمّ المعرض أعمالاً من سنوات سابقة ليست كلها جديدة، فهل هو معرض استعادي؟ هو أشبه ما يكون بالمعرض الاستعادي لأن المتلقي يشاهد مراحل متعددة لسنوات مختلفة ويستطيع أن يتتبع سير التجربة. يقدِّم الفنان أحياناً شكلاً يحمل العلاقة بين المجسم والمسطح، ثم يقدم تصويره، ليعود إلى المجسم والمسطح حينما تدعو الحاجة. ولكن تظلّ التجربة متلاحمة. حتى أن السطح التصويري لدي أشبه بالجدار، فأنا لا أعمل على القماش مباشرة، بل أقوم بعملية تجهيز للسطح، بداية بالخامات نفسها التي أنفذ بها المجسم والمسطح، حتى إن كانت وسائط ورقية. السطح بالنسبة إلي مسألة في غاية الأهمية تحتاج إلى بحث مستمر. يقول الناقد ياسر منجي إنك لا تهاب الغوص في أعماق اللون في أقصى طاقته. ما تعليقك؟ عندما يستدعي الأمر أقوم بذلك فعلاً. في بعض اللوحات ألوان جامدة وأخرى تحمل رهافة في اللون، بحسب الموضوع الذي يعمل الفنان عليه. عموماً، الفكر يصنع الشكل، والأخير يطلب أدواته ومفرداته ويفرضها على الفنان. تفاوت الأحجام في اللوحات، هل جاء بشكل طبيعي أم فرضته طبيعة الفكرة؟ ثمة أفكار تلحّ على الفنان فينفذها على قطع صغيرة تكون في متناول يده في تلك اللحظة قبل أن تذهب من الذاكرة. لا أستخدم «الإسكتش» لأني أعتبر أنني عندما أنتقل إلى تنفيذه على سطح اللوحة تُفقد الفكرة، وإن كنت لا أستطيع أن أقول هذا للفنانين الشباب لأنهم لا بد من أن يتعلّموا الرسم في البداية لينتقلوا لاحقاً إلى سطح اللوحة. يوحي بعض الأعمال بأن المجسم يخرج من سطح اللوحة وليس مضافاً إليه. فعلاً، وهنا أذكر أن الناقد الراحل مختار العطار قال «إن أحمد شيحة لا يضيف تمثالاً إلى السطح ولكن التمثال يخرج من هذا السطح على عكس ما قام به كثير من الفنانين من محاولات لإضافة تماثيل إلى السطح»، وأستشهد بالفنان الروسي الأصل الذي عاش في باريس أرشمينكوا ولوحته «ميدرانوا» التي ألصق بها تماثيل. بيروت ومدارس الفن هل تذكر أول معارضك والفرق بينه وبين تجربتك الأخيرة؟ كان معرضي الأول في بيروت عام 1967 في جامعة بيروت العربية بمناسبة استشهاد الفريق عبد المنعم رياض على خط قناة السويس، وجدت نفسي أرسم له لوحة كبيرة وأعمالاً أخرى. تضمّن المعرض حالة من الخلط بين الكلاسيكية والتعبيرية في التصوير، ثم بدأت الأخيرة تطغى على أعمالي بعد ذلك، وفي إحدى الفترات قدّمت حالة لها علاقة بالشكل السيريالي إنما بأسلوبي وطريقة تفكيري، ثم انطلقت إلى الأسطح التي أعمل عليها مشكلةً فتحاً جديداً في عالم الصورة. كيف تصف رحلتك في الفن التشكيلي منذ أول معارضك في الستينيات حتى معرضك الأخير؟ هي رحلة رائعة تتضمَّن كثيراً من الآلم والسعادة في آن، ولو عدنا في الزمن سأسير المسيرة نفسها لأني كنت دائماً أستمتع بما أعمل وأجد نفسي فيه. لم ألتحق بأية وظيفة، بل تفرغت للفن الذي لا يقبل شريكاً، لأنه يحتاج إلى وقت كبير، وطوال الوقت تجدني إما أستمع إلى الموسيقى أو أقرأ كتاباً أو أحضر عجائن وأكاسيد وأراقب تغيراتها. سافرت وأقمت فترة طويلة في الخارج. كيف استفدت من الغربة؟ عشت في بيروت 14 عاماً بدءاً من 1967. فبعد النكسة، شعرت بأنه لا بد من أن أنطلق بعيداً عن الإحساس بالألم الشديد بالهزيمة وبضرورة أن أعمل لأن الفن لا بد من أن يستمر. خلال هذه السنوات، زرت دولاً كثيرة في العالم العربي وأقمت معارض فيها، ثم سافرت إلى أوروبا، وبقيت أربع سنوات في الولايات المتحدة الأميركية حيث أقمت معارض في غاليرهات مهمة وحصلت على تكريمات منها، كذلك عرضت أعمالي في متحف لانكستر إلى جوار مومياءات مصرية تحت عنوان «مختارات مصرية من أعمال أحمد شيحة»، وحصلت خلاله على درع المتحف من عمدة المدينة، كذلك حدث نوع من ترشيح اسمي في الدائرة الداخلية للحزب الجمهوري، وتم اختياري ضمن ستة أشخاص من بينهم أرنولد شوارزنيغر كي نكون معاونين للرئيس الأميركي جورج بوش الأب عام 1990، ولكني اعتذرت. أشير هنا إلى أنني حصلت على تكريمات عدة في الخارج لإصراري على تقديم الفن المصري الحديث، والنجاح يعود إلى الحرص على تبيان وجه مصر الحديث من دون التأثر بالغرب. نبذة أقام أحمد شيحة معارض خاصة كثيرة في كل من مصر ولبنان، والكويت، والأردن، والعراق، وحاز جوائز دولية وشهادات تقدير، من بينها: - شهادة تقدير من المركز الثقافي الأميركي في مدينة سكرامنتو. - شهادة تقدير مجلس حكومة كاليفورنيا عن أعماله الفنية فيها. - شهادة تقدير مدينة لوس أنجليس من عمدة مدينة سكرامنتو عاصمة كاليفورنيا. - رسائل ترحيب من كل من حاكم كاليفورنيا جورج بكمان ونائبه ماكارثي. - منح العضوية الشرفية من مجلس السيناتوريال الأعلى للحزب الجمهوري في الولايات الأميركية المتحدة 1990.
مشاركة :