صحيح أن حزب تيريزا ماي فاز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان البريطاني في الانتخابات الأخيرة، ولكن من دون نيل الغالبية، لذا جاء فوزه بطعم الهزيمة. ويمكن القول في المقابل، إن هزيمة العمالي جيريمي كوربن كانت بنشوة المنتصر، وهذا ما يجعل الانتخابات الأخيرة تاريخية بامتياز، وذلك للمرة الأولى منذ بدء العمل البرلماني في بريطانيا. فالنتائج فاقت توقعات الزعيمين ومن حولهما من قيادة الحزبين المتنافسين، كما توقعات كثيرين من قراء توجهات الناخبين، لا سيما أن الانتخابات جرت في ظروف معقدة وسريعة التغير. من بين مفارقات هذه الانتخابات، أن تيريزا ماي لم تكن مضطرة لإجرائها، إذ كانت لديها حكومة بغالبية ١٧ صوتاً، وتبقى لحكومتها ثلاث سنوات من العمر الدستوري حتى٢٠٢٠. لكن تلك الحكومة كانت ورثتها عن سلفها ديفيد كاميرون الذي استقال إثر نتائج استفتاء صيف 2016، وأرادت ماي أن تبدأ المفاوضات مع أوروبا في شأن بريكزيت من موقعٍ قوي، إذ اعتقدت أنها ستحصل على حكومة أصيلة، ومع غالبية برلمانية أفضل مما كانت عليه سابقاً. تيريزا ماي لم تحصل لا على هذا ولا على ذاك، إذ باتت ترأس حكومة عرجاء لا تستطيع فيها تحريك أي مشروع قرار عبر البرلمان من دون مساعدة قوى برلمانية أخرى، وأصبح مصيرها قاب قوسين أو أدنى من النهاية. وعلى رغم تحقيق المحافظين زيادة في نسبة أصواتهم تبلغ ٥،٥ في المئة مقارنة مع نسبة ما حصل عليه حزبهم في انتخابات ٢٠١٥، فهم فشلوا في إحراز الغالبية البرلمانية. السبب الرئيس لذلك ارتفاع نسبة التصويت لحزب العمال الى نسبة ١٠،٥ في المئة على رغم عدم فوزه. تفسير ذلك هذه المرة (وهذا لم يحدث سابقاً في تاريخ الانتخابات في بريطانيا)، أن فئة الشباب العمرية، من ١٨-٢٤ سنة، صوتت بكثافة بلغت ٦٦،٤ في المئة مقارنة بـ٤٣ في المئة لعام ٢٠١٠. وكان أكثر من مليون ناخب من هذه الفئة العمرية قد سجلوا أنفسهم للاقتراع منذ إعلان رئيسة الوزراء عن موعد الانتخابات. مثلاً، أولادي الثلاثة الذين لم يُظهروا في السابق اهتماماً ملحوظاً بالانتخابات الوطنية، حرصوا هذه المرة على التصويت وصوتوا للعمال في دائرتنا المحلية. لقد استَحَثَّهم، مثل غيرهم من الشبان، جيريمي كوربن وفريق حملته الانتخابية بتقديم تعهدات تهم الشباب ومستقبلهم إن هم فازوا في الانتخابات، بينها توفير التعليم العالي المجاني للجميع وإلغاء نظام السلف المعمول به حالياً، الذي تم رفعه مرتين في عهدي حكومتي مارغريت ثاتشر وتوني بلير، إضافة إلى إعادة تأميم الشركات الكبرى وتوفير ملايين فرص العمل. في كل الأحوال، قال الشبان كلمتهم ومنحوا كوربن نشوة النصر غير المتوقع، كما حرموا ماي فرحة الفوز المنتظر. نتائج انتخابات بريطانيا دليل قوي وواضح على أن الناخب البريطاني، والأوروبي أيضاً كما أظهرت انتخابات فرنسا الرئاسية والبرلمانية، لا يرحم السياسيين إذا أخطأوا أو تذاكوا على المقترعين، كما بدا واضحاً من تلاشي تفوّق المحافظين على العمال في استطلاعات الرأي منذ الإعلان عن موعد الانتخابات العامة قبل شهرين من حدوثها. الأهم والأخطر من نتائج الانتخابات، طريقة تيريزا ماي في البحث عن سبل البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، إذ لجأت إلى التحالف مع مجموعة برلمانية منبوذة تقريباً لضيق أفقها السياسي والاجتماعي، إنقاذاً لحكومتها، هي» الحزب الاتحادي الديموقراطي» في إقليم إرلندا الشمالية، والذي له عشرة نواب في مجلس العموم. ويشار إلى أنه لو كان هذا الحزب موجوداً في بلدٍ شرق أوسطي لكانت بريطانيا في مقدمة الدول التي ستصدر بيانات الاستنكار ضده نتيجة موقفه إزاء قضايا حقوق الإنسان والديموقراطية. فالحزب الاتحادي في بنيته السياسية طائفي حتى النخاع، يمثل بروتستانت الإقليم الذين كانوا يفضلون شحن كاثوليكه وتسفيرهم إلى جمهورية إرلندا قبل اتفاق الجمعة العظيمة المعروف بواسطة بيل كلينتون. في المقابل، حقق الكاثوليك (لا سيما في الجمهورية، في الجنوب) تقدماً غير مسبوق في هذا المجال بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لجهة الاعتراف بالمثلية والزواج خارج الكنيسة والإجهاض. في الواقع، فإن رئيس وزراء جمهورية إرلندا الجديد الشاب (٣٨ سنة) ليو فرادكارد، المولود لأبٍ هندي وأم كاثوليكية، هو مثلي علني. والسؤال الذي ستواجهه حكومة ماي هو قدرتها على التواؤم بين برنامجها السياسي في الإصلاح الاجتماعي في الداخل والتفاوض حول بريكزيت مع أوروبا ومستقبل الحدود بين جمهورية إرلندا الأوروبية وإقليم إرلندا الشمالي البريطاني. فمن سيقرر هذا المستقبل، تيريزا ماي أم الحزب الاتحادي؟ دعوة ماي غير الموفقة لإجراء انتخابات ستزيد صعوبات شركاء بريطانيا الأوروبيين في فَهْم ماذا يريده البريطانيون فعلاً: هل تريد ماي بريكزيت ناعماً أم خشناً؟ حتى الآن لم تجب عن السؤال، على رغم أنه سؤال مركزي يصبو الأوروبيون إلى العثور على إجابة عنه. رئيسة الوزراء البريطانية لا تستطيع الإجابة لأن حزبها يريد الأمرين على ما يبدو. أصحاب بريكزيت الخشن هم الغالبية في حزب المحافظين وهؤلاء يرحبون بحرارة بالتحالف مع الاتحاد الديموقراطي الإرلندي المعروف بكراهيته البالغة لفكرة العمل الأوروبي أصلاً، وهو من أبرز مؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولكن في الوقت نفسه، يتمسك بروتستانت إقليم إرلندا الشمالي بعلاقات مفتوحة عبر الحدود مع جمهورية إرلندا الأوروبية لما تعود به هذه العلاقات من فوائد اقتصادية عليهم. على خلفية هذا المأزق الشائك، ليس من المؤكد أن تستطيع ماي الاستمرار في زعامة المحافظين لفترة طويلة، بل الاحتمال هو أن تتآمر عليها مجموعة من «صقور» الحزب الطامحين الى الزعامة وترتّب انقلاباً مبكراً ضدها. وهؤلاء الطامحون كُثر، بينهم من هو مكشوف مثل وزير الخارجية بوريس جونسون، ووزير بريكزيت ديفيد دافيز، ومن يعمل في الخفاء مثل وزير البيئة مايكل غوف العائد إلى الحكومة بعد خروجه منها لإخفاقه في منافسة ماي على الزعامة. ما يبدو راهناً، أن نخبة المحافظين قررت في هذه الأثناء التعايش مع ماي ريثما ينضج البديل.
مشاركة :