هل انهارت أسطورة البراءة البيضاءلو أن كل رجل أبيض في العالم طالب بالحرية أو الموت سوف يصفق له العالم الأبيض بأسره. ولكن حين ينطق رجلٌ أسود بالكلمات ذاتها، ينظرون إليه نظرتهم إلى مجرم ويعاملونه معاملة المجرم. وكل ما هو ممكن يَصدُر بحقه لتحويل هذا الزنجي الرديء إلى أمثولة. بهذا المنطق المباشر يتحدث الروائي والشاعر الأميركي جيمز بولدوين (1924-1987) في الفيلم الوثائقي “لستُ زنجيك” من إخراج المخرج الهاييتي راؤول بيك.العرب هالة صلاح الدين [نُشر في 2017/06/18، العدد: 10667، ص(14)]بولدوين الكاتب الأميركي الأسود الأكثر تمرداً على الصيغ بما في ذلك صيغ الزنوجة نفسها بدأت دور السينما اللندنية منذ أيام في عرض الفيلم الوثائقي الذي رُشّح لجائزة الأوسكار عام 2017. وقد تزامن هذا مع إعلان مكتبة “لندن ريفيو أوف بوكس”، وهي واحدة من أشهر مكاتب لندن، أن بولدوين كان كاتبها الأثير خلال شهر مايو. سوف تنظم المكتبة جلسات للقراءة ولقاءات عامة تناقش أعمال الكاتب. كما ستعْرض على رفوفها كل كتبه وعدداً ضخماً من الكتب النقدية التي تتناول أدبه ونضاله المدني بسعر مخفّض. اتفق أيضاً أن صار أرشيف رسائل بولدوين بالكامل معروضاً أخيراً للقراء والباحثين بعد عقود من الحجب والغموض، وذلك في مركز شومبرج لأبحاث الثقافة السوداء في نيويورك. عقدة الناجي هرباَ من العنصرية في بلاده، قضى بولدوين معظم حياته في باريس. ومع ذلك ظلت أميركا هي شغله الشاغل ومنبع أرقه. ينْظر “لستُ زنجيك” بعين العطف إلى إحساس بولدوين بالذنب تجاه القضية. فقد تجاذَبه صراعُ المراقِب من بعيد من ناحية والمعارض النشط من ناحية أخرى. ما هو الأنجع، الكتابة عن الكفاح في منفى باريسي أم سحل الطرقات والمظاهرات؟ الحق أنه لا يوجد كاتب عبَّر مثله عن الواقع الأسود لعنصرية الشمال والجنوب. يكفينا كتابه “النيران في المرة القادمة” الذي أصبح إنجيلاً للحركة السوداء في أميركا. في “لست زنجيك” يُطلعنا بولدوين على قصة العرق من خلال حيوات ثلاثة أصدقاء اغتالهم التحامل الأبيض: مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج وميدجار إفيرز. وكلهم نشطاء في مجال الحقوق المدنية. والأخير، الأقل شهرة، سعى إلى إلغاء الفصل العنصري في جامعة ميسيسبي الأميركية. رهافة شعرية يتخيل المخرج بيك كتاباً لم تتسن لبولدوين الفرصة لكتابته، صنع من كلماته النبوئية فيلماً يجمع بين السردية الراديكالية والرهافة الشعرية. وعنه كتبت جريدة “نيويورك تايمز”، “صورةٌ لرجل أعزل يجابه بلداً دمّر الكون بارتكاب جريمة القتل بعد الأخرى”. قبل أن يعاجل الأجل بولدوين، كان يطمح إلى أن تعالج مخطوطته “تذكَّر هذا المنزل” فاجعةَ اغتيال ثلاثي الحقوق المدنية السابق ذكرهم. أهداها إلى “مَن خانوهم، ولمن ضحوا بأرواحهم من أجلهم”. و”لستُ زنجيك” ما هو إلا تفسير كامل للمخطوطة الناقصة، ولكن على يد بيك. نشاهد لقطات أرشيفية لحوارات تلفزيونية أجراها بولدوين، ونستمع لصوت الممثل الأميركي صامويل جاكسون وهو يُبلِغنا بتصريحات بولدوين النارية عن العرق والسود، “في أميركا، كنتُ حراً في المعركة فقط. لم أكن حراً قط لكي أرتاح”. يتكلم الكاتب بلهجة العليم عن حاجة الأمة الأميركية إلى السود في الأصل، “احتاجوا إلينا لنقطف القطن، والآن لا حاجة لهم بنا. والآن سيقتلوننا جميعاً”. هكذا بلغت درجة تشاؤم بولدوين، وربما درجة واقعيته. يكشف بولدوين أنه أبى البكاء في جنازة مارتن لوثر كينج خشية أن يعجز عن الكف. وبعد اغتيال مالكوم باح “أتذكر أني بكيت سخطاً، لا حزناً”. ومع ذلك صرّح بأنه مرغم على التفاؤل، مرغم على الاعتقاد بأن بمقدوره البقاء على قيد الحياة بالرغم من كل شيء.بولدوين صوت من أصوات الإبداع الأميركي عاش في منفاه الاختياري بباريس حتى يتجنب العنصرية في وطنه وبعدها يطرح المخرج مسألة القوة الشرائية للسود. فجأة اكتشفت صناعة الدعاية أن السود ينفقون أموالاً غير قليلة وأنهم ليسوا عالة على الاقتصاد الرأسمالي، “إنه الفيل في الحجرة، والشَرَك أيضاً،” كما يقول المخرج بنبرة واثقة “حين يجبرونك على التفكير في نفسك باعتبارك مجرد قتامة، حين يبثون فيك السخط يومياً، يجردون عقلك من أيّ تفاصيل أخرى عدا العرق”. آثام الماضي ثمة شيء منوم مغناطيسياً في أداء بولدوين التلفزيوني. ذلك المزيج من الغضب التقيّ الممزوج بالبراءة ودقة المنظومة الفكرية واحترام الذات الرزين الخليق بالواعظ. كان وليد عصره، ولكنه سابق لعصره لأن اليمين الأميركي اخترع أسطورة للبراءة البيضاء تدَّعي الانقطاع عن آثام الماضي والتبرّؤ منها. ولكن لا أحد حتى يومنا هذا أجاب على الأسئلة التي طرحها بولدوين ولا حلّ على الطاولة. وفي الفيلم نطَّلع بعينيْ بولدوين واستشهاداته على آثار حركتيْ “حيوات السود مهمة” “والقوة السوداء” وكذلك التفرقة العنصرية في هوليوود. يقول مخرج الفيلم أسود البشرة، “إننا نتعرض لضغط هائل في صناعة السينما. ليست لدينا فرص المخرجين البيض. هم يخفقون كل يوم، ليس مسموحاً لنا بأن نخفق مرة واحدة”. وباجتهاد سينمائي جدير بالإعجاب يحبك الفيلمُ الصورةَ والموسيقى والشعر والدراما بسردياتها المتباينة في إطار سمعي وبصري ليسبر استغلالاً لا ينفك ينزل بحيوات السود في أميركا. يدسّ المخرج لحظات درامية تدمع لها العين ويرقّ لها القلب. نازيون يحرقون الكتب، رجال سود يُعدمون شنقاً دون محاكمة قانونية، والكثير من المواجهات الدامية للقويّ يبرح الضعيف ضرباً. نرى أيضاً لقطات من فيلم “كينج كونج”، وفيه ينطلق وحش هائل “أسود اللون” ليهدم ويدمّر المدينة. تناغمت اللقطات مع كلمات بولدوين تناغماً أخّاذاً، وبصورة فنية جميلة بعيدة كل البعد عن الوعظ والتعليم."احتاجوا إلينا لنقطف القطن، والآن لا حاجة لهم بنا. والآن سيقتلوننا جميعا" هكذا بلغت درجة تشاؤم بولدوين، وربما درجة واقعيته استعارة السلطة إن التجربة الأميركية الأفريقية من خلال منظور بولدوين ليست قصة الزنوج في أميركا، بل هي قصة أميركا نفسها، “لست زنجياً، إنّي رجل. ولكنك لو تظن أنّي زنجي، هذا يعني أنك في حاجة إلى ذلك. ولا بد أن تلمّ بالسبب. ومستقبل البلد يتّكل على هذا”. رفض بولدوين أن يعرِّفه مجتمع الأغلبية، بل رفض أن يعرِّف نفسه. اكتفي بأن يعلن أنه إنسان ذو سلطة ذاتية، ولكنه أقرّ بأن الواقع خذله مندداً بأن، “البياض صار استعارة عن السلطة”. يجادل بيك بأنّ لا شيء تغير سياسياً وفلسفياً. ولم يفلح انتخاب الشعب الأميركي لرئيس من أصل أفريقي، بعد ثمانية أعوام ضاعت منهم البوصلة وانتخبوا رجلاً هو خير نموذج للفاشية الشعبوية. قتلوا ثلاثي الحقوق المدنية وهم في العقد الرابع من أعمارهم، وانقضت عقود لتقتل الشرطة الأميركية شباباً في عقدهم الثالث بل والثاني. لقد انصرمت قرابة ستين عاماً وحركة الحريات المدنية تظل حيّة ترزق، صارت بالأحرى مسألة حياة أو موت، “ليس بمقدوري أن أتشاءم لأنّي حيّ”. ينطلق صوت بولدوين الرائد صاخباً، وفيلمه يقْطَع جسراً بين ستينات القرن العشرين واللحظة الآنية. الواقع أن “لست زنجيك” تحوِّل بولدوين إلى رسول طليعي حانت لحظته ليلمع ولحظته هي الآن. ورواياته عن بربرية العنصرية وتحديها خطابٌ كوني يخاطب كل منبوذي العالم. نطالعها اليوم وكأنما نطالع أخباراً. لم يكن بولدوين في التحليل الأخير يسوعاً ولا غاندي. كان يعلم علم اليقين أن النتيجة أياً كانت ستصبح دامية. ومخرج الفيلم على قناعة بأن الناس هم من يصنعون التاريخ، لا العكس. فالتاريخ ليس نصاً مكتوباً على حجر “لو أرادنا دماً، سنصنع دماً”. كاتبة من مصر
مشاركة :