إنه السؤال القديم - الجديد دائما. لماذا لم ننتج كتابة ترتفع إلى مستوى التراجيديا العربية النادرة؟ أين توثيقنا التاريخي، وأين شهاداتنا، إذا تشعبت أسئلتنا، عن أكثر من نصف قرن، في الأقل، عن تواريخ بلدان شهدت ربما أكثر من غيرها هبات وثورات وهيجانا وغليانا دمويين، ومعارك وحروبا داخلية وخارجية؟ إن «بطاركتنا» إذا صح الجمع، لا يقلون قسوة وجنونا، ومسخرة أيضا، عن بطريرك الكولومبي غارسيا ماركيز، إن لم يبزوه، وإن جلادينا لا يقلون بشاعة عن الجلاد البيروفي ماريا يوسا، الملقب بـ«المعظم»، في روايته الذائعة الصيت «حفلة التيس»، إن لم يكونوا يتجاوزونه كثيرا، هذا إذا أخذنا مثالين فقط من عشرات الأمثلة، في واقع شبيه إلى درجة كبيرة بواقعنا سياسيا واجتماعيا. إننا نتبادل وقائع مرعبة من تاريخنا، حين نكون قادرين على تبادلها، في المقهى، والبيت، ونروي شفهيا ما نعرفه وشاهدناه من فواجع، ونصرخ أمام المرآة، بدلا من أن نفعل ذلك على الورق. لا نتحدث هنا عن الإبداع فقط، الذي تتحكم به قوانينه الخاصة، وتتطلب شروطا معينة، وأولها الشرط الذاتي الخاص بالمبدع ذاته، وقد يأتي أولا في لحظات تاريخية معينة، وإنما كذلك عن الشهادات التاريخية والسير والمذكرات. صحيح أن السنوات الماضية شهدت صدور سير ذاتية، وشهادات وكتابات روائية عن فواجعنا، لكنها لا تزال يسيرة جدا، ولا تزال لا تشكل ملامح بارزة في المشهد الثقافي العربي، الذي اختزل للأسف على الكتابات الإبداعية، لأسباب كثيرة متداخلة تتعلق بطبيعة الثقافة العربية، وربما بتركيبتنا النفسية والذهنية، ودرجة تطورنا الاجتماعي والحضاري. فكتابة التاريخ وتوثيقه وتسجيله، ونشره للناس هي كما هو معروف، سمات مميزة للأمم المتحضرة، الحريصة على تسجيل ماضيها، ليس عبادة له، وإنما لدرسه والتعلم منه. لا نتحدث هنا عن التقارير الصحافية والوثائق التي سرعان ما ينساها الناس، إنما عن الكتابة التي تكشف عما حصل، ولماذا حصل، وتكشف لنا أين انحرف هذا التاريخ، وما السبيل إلى تدارك هذا الانحراف، وبذلك تقدم لنا رؤية تتجاوز الحدث، دون أن يفقد واقعيته المهولة. لقد أنتجت الأمم الأخرى، ولا تزال تنتج، آلاف الكتب عن مآسي الماضي، وأمجاده أيضا، سواء أكانت كتبا تاريخية أم أدبية. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، لا تكاد تمر سنة لا يصدر فيها كتاب في الأقل عن تاريخها القديم والحديث. وفي العام الماضي فقط، نشر أكثر من كتاب عن الحرب العالمية الأولى برؤى جديدة، إضافة إلى روايات استلهمت أحداثا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. إننا للأسف ننسى غالبا قوة الكلمات فنصمت. ويتحول هذا الصمت، من دون أن ندري، إلى ما يشبه التواطؤ على الحقيقة. ولقد صمتنا عن أحداث وكوارث كثيرة. ولم نسجل للناس والتاريخ ما كان يجب أن نسجله، فضاع منا الشيء. وهكذا، قد نجد أننا لسنا مهددين فقط بنسيان ماضينا، وإنما حقيقتنا الجوهرية هي المهددة بالضياع. كل شيء سيضيع في مجرى التاريخ إذا لم تأسره الكلمات.
مشاركة :