الشارقة:محمد ولد محمد سالم تُظهر قصيدة «المحبة»، للشاعر ابن أرقم النميري ما عَمِر به قلب ذلك الشاعر الزاهد من إيمان ومحبة لربه، وما كان عليه من نهج صحيح في خشية الله، وطلب مرضاته، وأنسه بلحظات القرب من ربه.وابن أرقم هو عبد العزيز بن محمد بن أرقم النميري عالم وأديب كاتب من أهل وادي «آش» بالأندلس، سكن «المرية» وصار من رجال أميرها المعتصم بن صمادح، وكان لابن أرقم مجلس علم يغشاه العلماء والفقهاء، وكان زاهداً منصرفاً إلى العبادة والتدريس في أغلب وقته، وله أشعار في الزهد وحب الله، وله كتاب في الشعر سماه «الأحداق»، وقد توفي سنة 460ه. يستهل الشاعر قصيدته بدعوة ندمائه لتعاطي «كأس» من نوع خاص لأنها «مقدسة»، صرفة التقديس، خالصة من أية شائبة دنيوية، فهي كأس علوية، لذلك فارتشافها لا يكون على النمارق في القصور، ولا في رياض البساتين الغناءة، بل في «روض الهدى»، هدى التقوى والمحبة الخالصة لله، ومن نور هذه الكأس أضاءت الأكوان، فما هي هذه الكأس يا ترى؟ إنها كأس الحقيقة الإيمانية، وأنوار الحق التي تضيء قلب المؤمن، وتنير دروبه إلى الرشاد، وتزوده بصافي المحبة وحلو المعارف العلوية، يقول الشاعر:تعالوا نعاطيها مقدسة صرفافنرشفها في بسط روض الهدى رشفا أنار بها الأكوان نور فأشرقتومن قبل موجوداتها وجدت لطفا شربنا بأكواب الصفاء صفاءهافاللّه ما أحلى هواها وما أصفىوحين يتعاطى المؤمن كأس المعرفة الحقة بالله، فإنه يغيب بتلك المعرفة عن الإحساس بذاته، ويمّحي منه الإحساس برغباته الدنيوية، ويتجرد من ملذاته الآدمية الأرضية، ليرتقي إلى عالم الروح، وتنكشف له حجب المعارف الحقة، لتعيش روحه هناك في ذلك العالم البهي الذي تقصر دونه النفوس، ويقضي العمر في طلبه من دون الوصول إليه.وهناك في ذلك العالم الذي كله سناء وبهاء، تحصل النفس على بغيتها من الأنس بربها، والقرب منه، وتقطف «بالإخلاص أزهارها قطفا»، لأن الإخلاص هو الغراس والعمل الذي تنال به تلك المرتبة، ويحق للشاعر في تلك المكانة السامقة أن يبوح بسر الهوى، ويعترف علناً بما يلقاه من أوجاعه من دون أن يخشى على نفسه الموت، فهذا الهوى يحسن فيه التصريح والبوح باسم المحبوب، ويثاب صاحبه على ذلك بعكس الهوى البشري الذي تحف بصاحبه المخاطر، فإن هو صرح باسم محبوبته قد يتعرض للقتل، أما محبة الله فالتصريح بها عبادة، يقول ابن أرقم:وغبنا عن الإحساس من طيب سكرهافلاح لنا في الكون ما لم يكن يخفىولما تجلّى الحسن في حجب قدسه حجبنا فلم نبصر حجاباً ولا سجفاورحنا بروض الأنس نجني ثمارهونقطف بالإخلاص أزهارها قطفاوبُحنا بسر الحب في مجلس الهوىولم نخش إذ بحنا بسر الهوى حتفاويقرر الشاعر أن وسيلة المحب إلى معرفة الله هي «الصدق» الخالص في عبادته وابتغاء مرضاته، فعن طريق الصدق تنكشف للإنسان أنوار لا تنطفئ،، وتزول عن بصيرته غشاوة الدنيا، وزينتها، ويكتشف المعنى الحقيقي للحُسن، وعندها لن يسبيه جمال قرط يتدلى على جيد طويل، لأنه سيعرف أن الحسن هو الحقيقي هو في ذات الله وصفات كماله، وعظمته وجلاله، لأنه هو الذي يصنع فيحسن الصنعة، وهو الذي يخلق فيحسن الخلق، وهو الذي يدبر فيحسن التدبير، وهو الذي يعطي فيحسن العطاء، ألم يقل جل من قائل «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ»، فذلك هو التجلي الكامل للحسن، وهو الذي يستحق الحب الخالص، وأن تحبس النفوس على التعلق به، وليس التعلق بجسد آدمي سيهرم ويتلف ويكون رِمّة.وينادي الشاعر ربه دعاء مستغيث انقطع به الرجاء إلا من ربه، ودعاء مقصّر أحس بالذنب بعد أن ظل يتراخى ويؤجل رحلته إلى ربه، وتوبته فاستوحش منه، وأحس أنه شارف على الهلاك بسبب ذلك، فلم يبق له إلا اللجوء إلى ربه رجاء المغفرة، وقد يجعل شوقه ومحبته لربه شفيعه إلى تلك المغفرة، وما أحسنه من شفيع، وما أجملها من وسيلة، وأعظمها من شفيع، فمهما تكن ذنوب العبد كالجبال فإن محبة الله والتوبة الخالصة له سوف تنسفها نسفا، وتذرها كأن لم تكن، يقول: فلو قصدوا المقصود بالصدق شاهدوامصابيح أنوار تنزّه أن تطفا ولو أخلصوا في ذاته وصلوا بهإليه ونالوا عنده أجر من أوفى ولو لمحوا معنى المحاسن صيغةلما وصفوا قرطاً ولا ذكروا شنفا ألا أيها الساقي ظمئنا فسَقِّنابألطافها يُشفى من الجهل ما يُشفى وعاود ففي الأكواب منها بقيةبها العيش يستحلى، بها الأنس يستوفىوما طيبها إلا بلطف مديرهابحيث منادي الرشد نبه من أغفى أمولاي يا مولاي دعوة مبعد على الهلك من تسويف رحلته أشفى بعثت ودادي واشتياقي وسيلةوإنيَ في باب الرجا باسط كفا وِإن ذنوبي كالجبال رجاحةوحبك يا مولاي ينسفها نسفا
مشاركة :