الصدق أساس بناء الدين، وعمودُ فُسطاط اليقين، مَن لم يكن معه الصدق فهو مِن المنقطعين الهالكين، ومَن كان معه الصِّدق أَوصله إلى حَضرة ذي الجلال، وكان سببًا في حُسن خاتمته وطيب المال؛ لذا أمرنا به ربُّ العالمين، فقال في كتابه الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (التوبة: 119). وقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «عليكم بالصِّدق؛ فإن الصدقَ يهدي إلى البرِّ، والبر يهدي إلى الجَنَّة، وما يزال الرَّجل يصدُق ويتحرَّى الصِّدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا». ففي هذا الحديث إشعار بحُسن خاتمة الصَّادق، الذي يتكرر منه الصدقُ، فالمؤمن الصَّادق يَلتزم الصِّدق في القَول، وفي النِّية والإرادة، وفي العزم والصدق في العمل، والصدق في الخوف والرَّجاء، والرِّضا والحُب والتَّوبة. أخرج النسائي والحاكم عن شدَّاد بن الهادِ ـ رضي الله عنه ـ: «أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به واتَّبعه، ثم قال: أُهاجرُ معك، فأوصى به النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوة، غَنم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبيًا فقَسَم، وقسَم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يَرعى ظهرَهم؛ فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسْم قسمَه لك النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذه فجاء به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما هذا؟ قال: «قَسمتُه لك»، قال: ما على هذا تبعتُك، ولكن اتَّبَعتُك على أنْ أُرمى ها هنا ـ وأشار إلى حَلقه ـ بسهمٍ فأَدْخُل الجَنَّةَ، فقال: «إن تَصدُق الله يَصدقْك»، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحَمَل، قد أصابه السَّهم حيث أشار، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أهو هُو؟» قالوا: نَعم، قال: «صدق اللهَ فصدقَه»، ثم كفَّنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جُبَّة، ثم قدَّمه فصلَّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: «اللهُمَّ هذا عبدُك خرج مُهاجرًا، فقُتِل شهيدًا، أنا شهيد على ذلك»، (صحيح الجامع: 1415). وفي «صحيح البخاري» و«مسلم» عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال:«غاب عمِّي أنسُ بن النَّضر عن قتال يوم بدر، فقال: غِبتُ عن أوَّل قتال مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَئِن أشهدني الله قتالاً ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع، فلمَّا كان يوم أُحد، وانكشف المسلمون، انهزموا، وأشيع خبر مَقتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفانهارت أو كادت تَنهار نفوسُ كثير من أصحاب النبي، فتوقف منهم من توقَّف عن القتال، وألقى أسلحتَه مُستكينًا، ومرَّ بهؤلاء أنسُ بنُ النَّضر وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قُتِل رسولُ الله، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟! قُوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: اللَّهم إني أَعتذر إليك مما صَنع هؤلاء ـ يعني المسلمين ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدَّم، فلقِيه سعدُ بن مُعاذ، فقال: أين يا أبا عُمير؟ فقال أنس بنُ النضر: واهًا لريح الجَنَّة يا سعد! إني أجده دون أُحد.. ثم مضى، فقاتل القومَ حتى قُتِل، فما عُرِف، حتى عرَفَتْه أختُه بعد نهاية المعركة ببَنانِه، وبه بضعٌ وثمانون، ما بين طَعنة برُمح، وضربةٍ بسيف، ورميةٍ بسهم». فهذا أنس بنُ النضر ـ رضي الله عنه ـ يقوده صِدقه إلى تلك الخاتمة السعيدة، فيجد ريحَ الجَنَّة قبل أن يُقْتَل. قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: فكنَّا نتحدَّث أن هذه الآية: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا»(الأحزاب: 23)، نزلت فيه وفي أصحابه.وهكذا فإنَّ العبد إذا صَدق مع الله، فإن الله يَحفظ عليه إيمانه، ويثبِّت قلبَه على التَّوحيد، ويرزقه حُسن الخاتمة. يقول الحارثُ الغنوي: «آلى رِبْعي بنُ حِراش ألا تفتَرَّ أسنانه ضاحكًا، حتى يَعلم أين مصيرُه، قال الحارث: فأخبر الذي غسَّله أنه لم يزل مبتسمًا على سريره ونحن نُغسِّله، حتى فرغنا منه، رحمة الله عليه»، (تاريخ دمشق: 6/101). غلبة الرَّجاء، وحُسن الظنِّ بالله:«الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع في الطائر النقص، وإن ذهب أحدهما أو كلاهما، صار الطائر عُرضةً للهلاك»، (مدارج السالكين: 2/36). ولقد جمع القرآن الكريم بينهما في أكثر من موضع، فقال تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا» (الإسراء: 56، 57). وقال تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ» (الزمر: 9). ولا يجتمع الخوف والرجاءُ في قلب العبد عند سكرات الموت ومُفارقة الحياة، إلا أعطاه اللهُ ما يرجوه من الرَّحمة، وأمَّنه ممَّا يخافُه من العُقوبة والمغفرة. ففي «سنن ابن ماجه» من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على شابٍّ وهو في الموت، فقال له: «كيف تَجدُك؟» قال: أرجو الله، وأخاف ذُنوبي، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجوه، وأمَّنه ممَّا يخاف»، (الصحيحة: 1051). لكن ينبغي أن يُغلَّبَ عند الموت جانبُ الرَّجاء على الخوف، وأن الله تعالى يرحمه، ويَعفو عنه، ويتجاوز عن سيِّئاته، وذلك حسن الظن الذي عناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج الإمام مسلم من حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل مَوته بثلاثٍ: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسن الظنَّ بالله».قال السَّادة العلماءُ: «ومعنى إحسان الظنِّ بالله، أن يظنَّ أنه يَرحمه ويعفو عنه». يقول حبانُ أبو النضر ـ رحمه الله ـ:«دخلت مع واثلةَ بنِ الأسقع على أبي الأسود الجُرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلَّم عليه وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة، فمسح بها على عينيه ووجهِه لبيعته بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له واثلةُ: واحدة أسألك عنها، قال: وما هي؟ قال: كيف ظنُّك بربِّك، فقال أبو الأسود وأشار برأسه، أيْ: حسَن، قال واثلةُ: أبشر، إني سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: قال الله ـ عز وجل ـ: «أنا عند ظنِّ عبدي، فليظُن بي ما شاء»، (حُسن الظنِّ لابن أبي الدنيا)، (الثبات عند الممات لابن الجوزي (68ـ69).
مشاركة :