في رواية يحضر فيها التناص بشكل ملفت، ويحضر فيها الشعر، تُستَحضَر شخصياتها من الماضي ربما لأن الماضي أكثر تجليا من الحاضر، أو لأحداث سقطات هنا أو هناك لتحريك ما هو ساكن. وكما يقول الكاتب: «لا أعود الى الماضي لأقف على الأطلال أو لألتقط صورا جامدة تلك عودة للماضي غير منتجة. يُسلّط ضوء الذاكرة أحيانا لفتح نافذة للتأمل أما الحنين إلى الماضي فهو حنين إلى شيء مفقود في الحاضر». هي كلمات كتبت في بداية الرواية ويقصد فيها القول: إن هذا العمل محاولة لقراءة أمة في جانب من تاريخها لذلك استخدم التناص واختار شخصياته بعناية. أبا الفرج الأصفهاني، الناطفي، عنان، شيمو، هي شخصيات بمقدار تواجدها في الماضي تتواجد بالحاضر ولكن بنِسَب مختلفة بسبب اختلاف الزمان والمكان. رواية أغرقت بالشعر والشعراء، والأسباب لا تخفى على الجميع فنحن أمة شعر، والشعر يجري في الدم ويشكل كريات أخرى تضاف إلى كريات الدم الحمراء والبيضاء التي تشكل الشاعر بنسبه للقبيلة في ذلك الزمان أو في زماننا، كالهرم المُضيء تسكن تحته قبيلته كي تستضيء بنوره، رواية «ليالي عنان» التي تكثر فيها الأسئلة كتبت بأسلوب مختلف بمصاحبة التناص وكأن الكاتب أراد منها أن تكون مادة نقدية للعديد من المسائل منها التخلف والفقر والعنف والفوضى والحريّة. فمن خلال شخصيتين أخذتا مساحة كبيرة من الرواية، عنان وشيمو، كان يبعث برسائل كثيرة، عنان مغنية ذلك العصر ومضيئة ليالي الناطفي أو ليالي عنان كما أرادت تسميتها، مغنية امتلكت ثقافة عالية مما ساهم في تبوء الناطفي ومجلسه مكانة مرموقة. وما حضور اسم هيفاء إلا إشارة تنبيه لحال الأمة التي كانت تسمع لأم كلثوم وفيروز، فعنان تشكل أم كلثوم وفيروز في ذلك الزمان لأن الغناء لكي يرتفع يحتاج إلى ثقافة عالية حتى يصل. شيمو، الشاعر الصعلوك لا ينطق الا بما يؤمن به ولو أغضب الآخرين، كان من الممكن أن يتغير حاله لو استثمر ما يملك من شعر وثقافة في مجارات عصره وامتلك مقابل ذلك المال والمكانة، مثل ما فعل الكثير من شعراء عصره لكن يظل شيمو على إصراره ويصفه الكاتب في أجمل مقطع في الرواية إذ يقول: تخيلت شيمو وهو يغد السير إلى منفاه الجديد ولسان حاله يقول: «ترحل فما بغداد دار إقامة. ولا عند من أضحى ببغداد طائل»! رحل شيمو باحثا عن (إيثاكا) أخرى كتلك التي سيبحث عنها الشاعر اليوناني (كفافي) في المستقبل البعيد، أي بعد اثني عشر قرنا، حيث الطريق محفوفة بالمغامرة والمفاجآت. وحيث الرحلة نفسها، بما فيها من عناء وانتظار، هي الإنجاز الوحيد في ذلك التشرد! شاعر يتقاطع مع الكثير من الشخصيات الأدبية التي ورد اسمها في الرواية، مظفر النواب، بدر شاكر السياب، أحمد الصافي، النجفي، كما يتقاطع مع الفنان نجيب الريحاني بخفة الدم. فكلما قرأت البيت الذي فيه يصف حاله مع الحظ تذكرتُ الريحاني في فيلم غزل البنات إذ يقول: «لو ركبت البحار صارت فجاجا/ لا ترى في متونها أمواجا/ فلو أني وضعت ياقوتة حمراء في راحتي لصارت زجاجا!» رواية لم يخش كاتبها عليها من التناص فكان سببا لنجاحها.
مشاركة :