الدعم الصريح الأميركي للحزب الاتحاد الديمقراطي وقوته الضاربة، قوات حماية الشعب الكردية، لا يعد ورطة كونها لا تزج بالعدد القليل من جنودها الموزعين على قواعد في الرميلان ومطار الطبقة العسكري في أي معارك مع داعش.العرب علي العائد [نُشر في 2017/06/24، العدد: 10673، ص(6)] عدم اتخاذ قرار، في علم الإدارة، هو قرار في حد ذاته. وفي السياسة، الأمر كذلك. أما في الحرب، فالامتناع عن قرار الحرب قد لا يعني السلام، حتى لو كان زمن السلام أطول بكثير من أوقات الحرب، وحتى لو كان الاعتقاد الأميركي أن عدم التورط في الحرب على سوريا يعد سلاما للأميركيين. الحرب لا تأتي فجأة حتى إذا كان سببها المباشر ينفي ذلك. فكل الحروب التي بررها الطمع، أو دفع أطماع الآخرين، استغرقت مقدمات طويلة تهيئة لها أو انتظارا لساعة اشتعالها. فهل كانت الحرب على سوريا مفاجئة لأميركا، الدولة الصانعة أو الراعية، لمعظم حروب النصف الثاني من القرن العشرين، وما بعد؟ على الأغلب، الأمر ليس كذلك. واستذكار مقولة “الفوضى الخلاقة”، التي جاءت على لسان كونداليزا رايس وزيرة خارجية جورج بوش الابن، عام 2005، قد يبرر الظن أن أميركا كانت تخطط منذ ذلك الوقت لإحداث مثل هذه الفوضى، لكن ليس للسبب المعلن، وهو نشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط بل لنشر المزيد من الفوضى، عبر استبدال دكتاتوريات منتهية الصلاحية بأخرى “أكثر حداثة”. في الغالب الأعم كانت أميركا -وأشباهها- تنتظر مثل هذه الفرصة التي بدأت بالتشكل في دول الربيع العربي منذ نهايات 2010 حتى تطبق النظرية المذكورة. فمن عادة أميركا أن تخطط لانقلابات أو تشن حروبا وليس دعم ثورات أو “حركات تمرد”. ولنتذكر دعمها الاستخباراتي والعسكري لحركات التمرد في أميركا اللاتينية وفي الوقت نفسه دعمها للدكتاتوريات التي ثارت ضدها حركات التمرد. ودولة مثل الولايات المتحدة لا تتورط في السياسة أو الحرب مع امتلاكها خططا بديلة لأي سياسية غير ناجعة أو حرب غير رابحة أو مزيجا من الاثنتين من قبل ومن بعد. فحربها في أفغانستان، أو العراق، أخذت ما يكفيها من المقدمات قبل 11 سبتمبر. والأمر ذاته ينطبق على حروب أميركا السابقة. لكن الحرب على سوريا تبدو مختلفة، كون الورطة في العراق جعلت أميركا تحجم عن تكرار الورطة في سوريا بعد وقت قصير من ورطتها في العراق، ولأنها دفعت كلفة اقتصادية كبيرة لم يبرأ منها الاقتصاد الأميركي بعد، ولأنها جاءت بعد سلسلة من الحروب المتصلة بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي قبل انهياره تماما في عام 1991. الاختلاف يأتي من الفراغ الذي تركته أميركا لمن يملأه. حتى روسيا تأخرت كثيرا قبل التورط في سوريا في نهاية سبتمبر 2015. بناء على ذلك، يمكن القول إن أميركا كانت تنتظر أن تتورط روسيا في الحرب بعد سنوات من الدعم السياسي الذي لم يحسم الحرب لمصلحة حليفها. الانتظار والترقب كانا قرار أميركا حيال الحرب على سوريا، بدليل الصراع الحزبي الجمهوري-الديمقراطي في رئاستي أوباما، و”صمود” أوباما في وجه انتقادات حزبه، والحزب الجمهوري. وفي عهد ترامب، لا يمكن الحديث حتى اليوم عن نجاعة استراتيجية للإدارة الجديدة بالرغم من اقتطاع أميركا مناطق نفوذ لها في سوريا. لكن هذه المناطق كانت خالية من تواجد النظام وحلفائه منذ سنوات، ما يعني أن احتمال نشوء صراع روسي أميركي على مناطق النفوذ غير مرجح، كون الطرفين حريصين على تجنب ذلك. تؤيد هذه الرؤية تصريحات سابقة للسفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، كررها قبل أيام في حوار أكد فيه اللارغبة الأميركية في إلقاء ثقلها السياسي أو العسكري في سوريا، معترفا بأن بعض مناصري الثورة السورية تفاءلوا ببعض التصريحات الأميركية غير المحسوبة، ابتداء من زيارته لحماة في ربيع 2011، وإشارات من وزيرة خارجية أوباما هيلاري كلينتون، حول فقدان بشار الأسد الشرعية وصولا إلى آخر الخطوط الحمراء على لسان أوباما في أغسطس 2013 عقب مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق الشرقية. حتى الدعم الصريح الأميركي للحزب الاتحاد الديمقراطي وقوته الضاربة، قوات حماية الشعب الكردية، لا يعد ورطة كونها لا تزج بالعدد القليل من جنودها الموزعين على قواعد في الرميلان ومطار الطبقة العسكري في أي معارك مع داعش مكتفية بالدعم الاستخباراتي والتسليح مع أقل قدر من التصادم مع تركيا القلقة من الدعم الأميركي للأكراد. وعلى الرغم من أن الوجود العسكري الأميركي تصاعد بحدة منذ تسلم ترامب الإدارة، فإن هذا الصعود من الصفر حتى بضع مئات من جنود المارينز لا يُقارن بمئات الآلاف زجت بهم أميركا في “معركة تحرير العراق”، وبالتالي يشبه زخم ترامب اليوم إحجام أوباما بالأمس، دون أدنى توقع لزيادة التدخل الأميركي بالأصالة في الشهور المقبلة. عدم الإفراط في تفاؤل التوقعات يدعمه الإحجام الأميركي عن إشعال المساومة السياسية مع روسيا في بازاري جنيف أو أستانة، حيث تبدو أميركا مرتاحة لفشل المسارين في رسم ضوء حتى في آخر النفق. إذا، فاللاورطة الأميركية تؤتي ثمارها، بمعنى أن ترك روسيا تعطل مسار جنيف وترك الائتلاف والفصائل العسكرية المعارضة يناوران في أستانة دون نتيجة تقود إلى حل دائم، هو ما تريده أميركا. غير أن القوة الأميركية الموصوفة والتنمّر الروسي في الفراغ وفي الوقت الضائع، مضافا إليه العجز الصفري للمعارضات السورية، في السياسة والسلاح والمال لا يقارب أيا من السياسات الأميركية المختبرة في حالات “نزاعات” مماثلة، لأن روسيا والمعارضات السورية لا تتصارعان فعليا، وبالتالي لا يمكن لأميركا تطبيق “سياسة الاحتواء المزدوج” تجاههما، في انتظار إنهاك طرفي الصراع، كما جرى في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن العشرين. وبفقدان أدبيات الحرب الباردة، لا حرب باردة بين أميركا روسيا في الرقعة السورية، فروسيا لا تمتلك حاليا سوى سياسة حافة الهاوية، مع غياب الخيارات البديلة، سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، أي أنها تقامر بكل أوراقها دفعة واحدة. ويكفي للدلالة على ذلك التذكير بالعقوبات الأميركية المستمرة والمتزايدة على روسيا. ولا تخفف من عمق الورطة الروسية في سوريا التفاهمات على تنسيق الطلعات الجوية بين سلاحي البلدين في السماء السورية، ولا الاستقرار النسبي لأسعار النفط، ولا الثبات القلق لسعر صرف الروبل الروسي، حيث يمكن لأميركا متى أرادت توجيه كبار مستثمريها للمضاربة على الروبل في السوق الفورية للسلع والعملات. إذن، فإيثار واشنطن عدم التورط المباشر والقناعة بتحقيق انتصارات بدعم الأكراد أو بدعم فصائل من الجيش السوري الحر في البادية سياسة غير جديدة بالمعنى التام للكلمة، بل تنويع على سياسة احتواء الدكتاتوريات ومحاولة لتكثير أسباب التدخل المباشر في المستقبل، فمن غير المعقول أن تكون بدايات اللاتورط الأميركي مقطوعة عن مستقبلها، حتى لو استمر السعي الروسي إلى التقليل من أسباب التدخل الأميركي المباشر. كاتب وصحافي سوري علي العائد
مشاركة :