الموت الذي يكره الأطفال من الوريد إلى الوريد، أثبت فشل جميع المبادئ والقيم الإنسانية وصار يقف في طريقنا كل يوم وقفته الساخرة.العرب نهى الصراف [نُشر في 2017/06/24، العدد: 10673، ص(21)] معجزة طبية، أنقذت مصطفى (10) سنوات من موت محقق بعد أن أعمل أحدهم سكين حقده في رقبته الرقيقة، قبل أن يتركه يلاحق أنفاسه الأخيرة في أحد مكبات النفايات في بغداد! كيف تمكن الخيّرون من إنقاذ الطفل؟ كان الجواب الأول الذي خطر لي، أن القاتل أو المسخ، لا فرق، لم يقم بعملية الذبح من الوريد إلى الوريد!.. فترك فرصة للطفل بالنجاة، على مضض. هذا الخبر تناقلته بعض الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي العراقية، مشدّدة على حجم المعجزة التي قام بها فريق بارع من الأطباء في أحد مستشفيات بغداد، الفريق الذي تمكن من مقارعة الموت الذي رقص طويلاً على جسد الصبي الجميل، قبل أن يعاجلونه بعملية جراحية دقيقة تضمنت إصلاح البلعوم والقصبة الهوائية مع إصلاح الوريد الورجي الأمامي. هكذا ورد الخبر بتفاصيله الطبية، ثم تبعه إعلان مدير المستشفى بأن العملية كانت معقدة للغاية للصعوبة التي واجهها الأطباء في تخدير (المريض)، بسبب إصابته في القصبة الهوائية! بالطبع، أستطيع في هذه الحالة أن أتعامل مع الخبر من وجهة نظر صحافية أو طبية؛ فعناصر الجذب تجعله مادة ساخنة لتناولها في مقال من بضعة سطور، يمكنه أن يكون فرصة مناسبة لجذب اهتمام نسبة لا بأس بها من القرّاء، كما أن الخبر سيكون بالتأكيد على طاولة البحث في كليات الطب المحلية وربما العالمية لفحص عناصر هذه “المعجزة”، الطبية التي حدثت في عصر توقف عن إنتاج المعجزات بكل أشكالها لانشغاله بإنتاج الموت. لكني كأم، خفق قلبي مراراً وأنا أقلّب الأمر من جميع جوانبه، وكنت أضع نفسي في كل مرّة محل الطفل فأتمثل آلامه وفزعه في لحظة (الذبح)، ثم الأفكار التي كانت تدور في رأسه، فيما لو كان واعياً، وهو يتابع أنفاسه بصعوبة بعد أن تركوه في مكب النفايات التي قضى فيه بعض الوقت لا أعلم مقداره، لكني أعلم أن الدقيقة هناك كانت تعني ملايين السنين؛ انتظار الموت وحيداً ومتألماً تحيط به روائح القمامة العفنة في طقس حار ورطب يشبه الجحيم، والأهم من كل ذلك، كان الطفل بعيداً عن حضن أمه. تظاهرت بالانشغال عن حزني في تقصي معنى كلمة “من الوريد إلى الوريد”، من وجهة النظر الطبية طبعاً وبعيداً عن رومانسيات مفهوم “أكرهك وأحبك، من الوريد إلى الوريد”، التي طالما تغنى بها شعراء عاشوا طفولة حقيقية ولم يطوح مجنون برقابهم في مكبات النفايات. حقاً، فهذا الموت الذي يكره الأطفال من الوريد إلى الوريد، أثبت فشل جميع المبادئ والقيم الإنسانية وصار يقف في طريقنا كل يوم وقفته الساخرة وهو يرسل نظرة استهجان طويلة، فيقطع علينا طريق الصباح ويمعن في تخريب أمزجتنا، ويصر على أن نحتسيه كل يوم مع فنجان الشاي أو القهوة، ومع وجعنا. هذه هي المرة الأولى التي أتمكن فيها من مطالعة صور الفاجعة من دون أن أرتجف أو أخاف، تتبعت مسار الجرح الغائر في رقبة الصغير الرقيقة، ومشهد “الغرز” التي أحدثتها أصابع الجراحين، والأنابيب التي كانت تخرج من أنفه وفمه أثناء العملية الجراحية وبعدها. لكن، الصورة التي قتلتني كانت للطفل بعد نجاته، وهو يغط في نوم هادئ على سرير المستشفى؛ كان مصطفى يعود إلى الحياة تدريجياً وكأن شيئاً لم يكن، ولم يعلم بأنه كان قد قتل أمه مراراً وقتل جميع الأمهات من الوريد إلى الوريد! كاتبة عراقية مقيمة في لندننهى الصراف
مشاركة :