رياض الميلادي يرى أن القرآن لا يمكن أن يكون أصلاً للتّشريع وللاعتقاد إلّا متى كان مبيناً عن الأحكام على النحو الذي يفهمه البشر. العرب محمد الحمامصي [نُشر في 2017/06/24، العدد: 10673، ص(17)]في قراءته للقرآن أصلا من أصول الفقه يتصدى الباحث التونسي رياض الميلادي في كتابه "الكتاب أصلاً من أصول الفقه إلى حدود القرن الثامن من الهجرة" للأبعاد التشريعيّة في القرآن تصدياً نقدياً مباشراً يتوسّع في إثارة قضاياه المنهجيّة والمعرفيّة، ويجيب عن أبرز الإشكالات، ويصرّح بأهمّ مواطن الإحراج، ما يساعد على إدراك كيفيات اشتغال الفكر الأصوليّ وآلياته في تدبّر المصحف نصّاً تشريعيّاً أوّلَ في فترات من التاريخ متباينة. ولئن امتدّ البحث إلى حدود القرن الثامن من الهجرة، فإنّ الفكر الإسلامي مازال، اليوم، يثير هذه المسائل في أكثر من فضاء. بنى الميلادي كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود على عدد من المحاور قاسمها المشترك هو الكتاب بالاستعمال الأصولي للمصطلح، أو هو القرآن، وقد تشكّل في مصحف متداول بين أيدي الناس، فأمسى نصّاً مغلقاً. أمّا الطرف الثاني من هذه المحاور، فهو الثبوت أوّلاً، والبيان ثانياً، والشمول ثالثاً. فعقد الباب الثاني الموسوم بــ”الكتاب والثبوت” ليختبر أهمّ مسلّمة أصوليّة واعتقاديّة عند المسلمين، وقصد بها مسلّمة الثبوت؛ فالنصّ القرآني موسوم بالثبوت عموديّاً وأفقيّاً، أي أنّ الوحي نزل من الله على الرسول الذي نقله بأمانة كما هو دون تغيير أو تحريف، مثلما تناقله المسلمون في التاريخ متواتراً ما يحفظه من ضروب التبديل، أو التزوير. كما بحث الميلادي في قضية الكتاب والبيان؛ ليقوّم إحدى المقالات الأساسيّة في الفكر الأصولي؛ بل الإسلامي على وجه العموم؛ ذلك أنّ القرآن لا يمكن أن يكون أصلاً للتّشريع وللاعتقاد، أيضاً، إلّا متى كان مبيناً عن الأحكام على النحو الذي يفهمه البشر. أمّا الباب الأخير، الذي وسمه بــ”الكتاب والشّمول” فوقف فيه على مسلّمة الشمول، التي يقرّها الأصوليّون جميعاً، فالقرآن يحمل، عندهم، حلولاً لكلّ ما يحتاج إليه الإنسان، ولجميع النوازل التي تحيق به، فضلاً عن كونه أصلاً تشريعياً يكتفي بذاته. والأمر، على ما رأى، وثيق الصّلة بالخطاب الأصوليّ، إذ حاولنا، قدر الجهد، اختيار المسلّمات الأساسيّة التي بنى عليها الفكر الأصولي منهجه في التعامل مع النصّ لنختبرها ونقيّمها لا من خلال كتب الأصول فحسب، بل أيضاً بواسطة كتب الفقه، والتّاريخ، وعلوم القرآن، وغيرها. واقتضى هذا المنحى للميلادي الذي اتّخذه في عقد الأبواب، أن يعرض هذه المسلّمات، ويحلّل أبعادها، مثلما تجلّت في المدوّنة الأصوليّة على امتداد الفترة المدروسة، ولقد اختار في مقاربته للقضايا التي يثيرها الكتاب أن يقف على مسائل بدت له جوهريّة تخترق مصنّفات علماء الأصول جميعاً، وحاول التعمّق فيها، والإحاطة بها، إذ يقول “نملك الوعي بأنّ ما اخترناه من قضايا فيه إهمال لغيرها ممّا لا يقلّ عنها أهميّة، ولكنّ شروط البحث ومقتضياته فرضت علينا أن نختار مع ما قد يكون في ذلك من ضروب العسف”. ويضيف الميلادي “لئن رشّح الأصوليون مصطلح (الكتاب) للإحالة إلى القرآن مدوّنة تشريعيّة مكتملة مغلقة، وحملوا المصطلحات الأخرى المحيلة إليه محمل الترادف، فإنّ ذلك يعكس، في الحقيقة، اختزالاً واضحاً لمستويات النصّ المقدّس، فلم يميّزوا بين المتعالي المفارق الذي يمثّل العلم الإلهي، الذي لا أوّل له ولا آخر، وهو الموسوم، حقّاً، بالثبوت، والبيان، والشمول، وبين المحايث التاريخي الموسوم بالحركة التي تدلّ عليها شواهد كثيرة منه، كالنسخ، ونزوله منجّماً على أكثر من عشرين سنة وغيرها. وألحقوا صفات هذا بذاك، ولكنهم لم يناقشوا ما يؤدّي إليه خلطهم من مآزق في تصوّرهم للنصّ المقدّس؛ فظاهرة النسخ، التي أقرّ بها أغلب العلماء، تطعن في مقالتهم التي تؤكد أزليّة النصّ”. وأكد أنّ تعامل الأصوليين مع القرآن، بعد أن أمسى مدوّنة نصيّة مغلقة، يجب ألا يحجب عنّا حقيقة وضعه قبل تشكّله في مصحف، فضلاً عن أهمية البحث في تاريخ نزوله، وظروف تقبّله. ويرى الباحث أن الوحي، بما هو كلام الله في الملأ الأعلى، قد نزل على الرّسول، فتلبّس بلغة بشريّة قُدّ منها لتمثّل وسيطاً لغويّاً ضروريّاً بين عالمين وجوديّين متمايزين، أوّلهما مفارق لا نملك الأدوات المعرفية أو الإجرائية لاختباره وفحصه وتدبّره، وثانيهما محايث تاريخيّ، وثيق الصّلة بشواغل الإنسان في الواقع، متلبّس بأسئلته الوجوديّة، وبوضعه المعرفيّ، فكان أن تأثّر الوحي بالثقافة الشفويّة التي استقبلته، مثلما تأثر بوضع الكتابة زمن جمعه في عهد الخليفة الثالث، فنتج عن ذلك الكثير من الإشكالات التي أصبحت اليوم متداولة عند الدّارسين، مثل القراءات، والجمع، والتدوين، وترتيب الآيات والسور داخل ما سيسمّى لاحقاً المصحف. ولفت الميلادي إلى أنه إذا كان الأصوليون المحدثون لا يضيفون شيئاً ذا بال إلى المقرّرات الأصوليّة التقليديّة في شأن القرآن نصّاً تشريعيّاً، فإنّ بعض المفكّرين المسلمين من خارج الآفاق العربيّة، ولا سيما من الهنود والباكستانيين قد عبّروا عن جرأة كبيرة في مقاربة القرآن نصّاً أوحي إلى الرّسول، ونصّاً تشريعياً، أيضاً، مثل الفيلسوف الهندي الكبير محمد إقبال؛ بل يبدو أنّ ذلك قد دفع بعض الشيوخ من العرب المسلمين إلى شقّ عصا الطّاعة، وإلى اقتراح رؤية جديدة للقرآن نصّاً تشريعيّاً مثل المفكّر السوداني المعاصر محمود محمد طه، وتلميذه عبدالله أحمد النعيم، اللّذين رأيا أنّ الرّسالة الأصل هي الرسالة المكيّة، وهي وحدها التي توسم بالديمومة والخلود؛ لأنّها رسالة القيم الإنسانية العامّة والمجملة، التي يبدو أنّ المجتمع الإسلامي، في بداية الدّعوة، لم يكن قادراً، في نظر محمود محمد طه، على استيعابها وتمثّلها، فجاءت الرّسالة المدنيّة، وهي الرّسالة الفرع، التي أنزلها الله مستجيبة لملابسات الظرف التاريخي. وخلص الميلادي إلى القول “حريّ بنا أن ننتهي إلى أنّ النصّ القرآني، باعتباره حدثاً لغوياً يحمل عقائد الناس، هو نصّ منفتح على الدوام، قابل لتعدد القراءات وتجدّدها إذا أردناه بالفعل صالحاً لكلّ زمان ومكان”.
مشاركة :