هل مشكلة ليبيا في من يتوسط بين الليبيين؟ هل يحتاج الليبيون أصلا لوسيط إن اتقوا الله في أهلهم وبلدهم ومستقبل أولادهم؟ وعلى ماذا يختلف الليبيون اليوم.العرب فتحي بن عيسى [نُشر في 2017/06/24، العدد: 10673، ص(8)] وافق مجلس الأمن الوصي على ليبيا بموجب القرار الـ1973 وما بعده من قرارات على تعيين اللبناني المسيحي غسان سلامة رئيسا جديدا لبعثة الأمم المتحدة للدعم إلى ليبيا. وهو بالمناسبة ولد في نفس العام الذي ولد فيه دستور المملكة الليبية على يد الإنكليزي المسيحي أدريان بلت، وهو توافق أرجو أن يكون بشرة خير غير تلك التي تغنى بها الفنان الرائع حسين الجسمي الذي وجدنا فيه مشجبا نعلق عليه نكباتنا الواحدة تلو الأخرى، حيث توجد مفارقة أخرى، فطائفة منا اليوم تدعو لدستور ساهم في خروجه إلى النور مبعوث الأمم المتحدة وقتها وترفض وساطة ذات الهيئة والوسيط اليوم والحجة “السيادة” متهمين الأجداد، الذين ندّعي أننا بهم نفخر، بعدم الوطنية والتفريط في السيادة الليبية، فعندما تحكمنا العواطف فلا عجب ولا استغراب. منذ تسريب خبر تكليف اللبناني غسان سلامة خلفا للألماني مارتن كوبلر رئيسا لبعثة الأمم المتحدة للدعم إلى ليبيا، وإدراجات مواقع التواصل الاجتماعي والمقالات التي تتغزل بالرجل وكفاءته لم تنقطع، وتبشر بمرحلة جديدة في ليبيا قوامها الاستقرار والأمان، لنحلق كالعادة في سماء الأماني إلى أبعد نقطة فيها. فنحن مولعون حد الهوس بنظرية “الرجل المنقذ” ونمضي أعمارنا دون عمل ترقبا للمهدي المنتظر. في كل الأحوال فما نراه اليوم هو ذات المشهد المكرر مع كل وافد يأتينا، وكي لا نوغل في الماضي القريب نستذكر الأماني والتعليقات التي صاحبت تولي مارتن كوبلر حيث وُصِفَ اختياره وقتها بأنه إيذانٌ بانتهاء مرحلة الفوضى والانقسام وبدء مرحلة الرخاء، فتم التسويق أن المجتمع الدولي انتهى من وضع الحل السحري للأزمة الليبية وبدأ في مرحلة التنفيذ، فمن غير “الماكنة الألمانية” بعد “المروض الإسباني” يمكنه تنفيذ اتفاق الصخيرات، فكوبلر وقتها رجل المرحلة بامتياز، إذ الألمان لا يهدرون الوقت ويهتمون بالجودة والإنجاز، ليتبخر هذا “الأمل الموهوم” ويصبح كوبلر “عميلا” و“متواطئا” و“خائنا” ويجب أن يرحل، وأعتقد جازما أن مصير سلامة لن يكون أفضل من سابقيه، فالمدّاحون “قدموا سبت المديح طمعا في إحدى العطايا والمنح”، فإن تأخر يوم الأحد، فلا عهد لديهم ولا ميثاق لأحد. عموما، هو مشهد تعودنا عليه وصار جزءا من هويتنا التي نبحث عنها في رحلة التيه التي نعيشها اليوم، وسأتوقف برهة وأطرح بعض الأسئلة الساذجة ولتكن غبية من قبيل: هل مشكلة ليبيا في من يتوسط بين الليبيين؟ هل يحتاج الليبيون أصلا لوسيط إن اتقوا الله في أهلهم وبلدهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم؟ وعلى ماذا يختلف الليبيون اليوم؟ وإذا أراد الليبيون أن يبنوا بلدهم فمن الذي يمنعهم؟ وإن أرادوا فعلا المصالحة فمن الذي يجبرهم على عدم الجلوس معا وحل مشاكلهم؟ ولماذا يتبادل الليبيون التحايا والأماني الطيبة إن اجتمعوا خارج الوطن، فيما تحل القنابل بدل القبل داخل الوطن؟ والسؤال الأكثر سذاجة هو: لماذا نجح مبعوث الأمم المتحدة لليبيا في القرن العشرين أدريان بلت وفشل سواه من مبعوثي الأمم المتحدة إلى ليبيا في القرن الحادي والعشرين؟ لماذا نحتفي بالسيد غسان سلامة كما احتفينا بأسلافه قبل أن نطلق ألسنتنا التي كالت المديح يوما بكل نقيصة ومنقصة فيه وفيهم. قبل عامين من الآن التقيت في العاصمة الإسبانية مدريد بالسيد برناندينو ليون رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم إلى ليبيا خلال جلسات حوارية نظمتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (مكتب اليونسكو في ليبيا) تحت عنوان “إصلاح الإعلام الليبي وتطويره”، قلت له وقتها “سيد ليون التاريخ يفتح ذراعيه لك ويتيح لك فرصة لتخلد اسمك لتكون أدريان بلت العصر الواحد والعشرين في ليبيا ولا أعتقد أنه ينقصك الذكاء والفطنة لتضيع هذه الفرصة الذهبية”. كان رده رغم قصره درسا بليغا لمن كان له قلب أو عقل، قال لي “عزيزي فتحي، شكرا لكلمتك التي شعرت بصدقها، أدريان بلت نجم عال، وأنا لا أزال أحبو، ولكن بلت على مهارته لم يكن لينجح لو لم يُردْ أجدادك وقتها النجاح، تركوا مطالبهم الشخصية لأجل بلدهم، هذه الروح لا أجدها اليوم”. أي باختصار لن ولا تتوقعوا أن تجدوا السلامة عند السيد غسان سلامة إذا لم نقتنع فعلا أن ليبيا لنا جميعا وأنه لا يمكن لأي منا أن يقصي الآخر، وأن المغالبة لا تصنع وطنا وإن توهمنا ذلك، فقوي اليوم ضعيف الغد، وضعيف اليوم قوي الغد، فلا يغتر أحد بسيطرته اليوم فسيفقدها غدا، وتستمر دوامة العنف والعنف المضاد، والإقصاء والإقصاء المضاد، والثأر والانتقام، فالناس قد يتعايشون مع الظلم إجبارا حتى حين في انتظار ساعة الانتفاض والانقضاض. نحن نسير في طريق الندامة، طالما لم نستوعب ونتعلم كيف نتعايش معا، ونستوعب أن الحياة تكامل وليست تفاضلا، ونتخلص من النظرة الدونية إلى كل شريك لنا في الوطن، ونتيقن بأن الحقوق لا تقاس بأغلبية وأكثرية، وأن المواطنة هي أساس بناء الوطن. نحن نسير في طريق الندامة، طالما العزة بالإثم تقودنا، والكبرياء الزائف يحركنا، والأهواء تحدد مواقفنا، نبصر القذى في أعين من نكره ونتعامى عن الساري في أعيننا. مرت أوروبا بما مررنا به؛ محاكم تفتيش ومذابح وحروب أهلية وانقلابات ومؤامرات ودسائس وتهجير وإبادة وميليشيات، معارك وغزوات باسم الله تارة، وباسم القومية تارة، وباسم التفوق العرقي تارة أخرى، وباسم الحقوق والوطنية تارة، إلا أن الأوروبيين بفضل نخبتهم والتنويريين فيهم أيقنوا أن كل هذه الشعارات الزائفة لن تحقق لهم الخير والسلامة فقرروا التوقف عن سلوك درب الندامة. وتخلصوا من سطوة الأساطير، وأيقنوا أن المتاجرة بالشعارات والمزايدة بها لا تبني وطنا ولا تقيم دولة، فأعادوا صياغة المفاهيم، وأمعنوا النظر والتفكير، فاتفقوا على أن المواطنة هي أساس البناء، بعد أن فهموا أن الحياة تكامل بين البشر لا فضل لأحد على آخر إلا بقدر جده وعطائه، فتخلصوا من عقدة التفاضل والتعالي، فصنعوا مجدا محوا به عار القرون الوسطى. لن أبيع ما أعتقد أنه الوهم، فأنا أشفق على غسان سلامة كما أشفقت وأشفق على كل من يتصدر المشهد في ليبيا، فلا سلامة ولا سواه يملك أن يغير ما بنفوسنا نحن الليبيين، ولن يصلح حالنا طالما نحن مصرون على مخالفة القانون الإلهي “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فالسيد سلامة لا يملك لنا السلامة طالما لم نصل إلى قناعة بأننا يجب أن نتوقف عن السير في طريق الندامة، وهو طريق للأسف نسير فيه منذ عقود وعقود. كاتب وصحافي ليبيفتحي بن عيسى
مشاركة :